تعود الحكاية إلى عام 2015 عندما كتب أحدهم مادحا "أنني أهم ناقد من الجيل الجديد في الوطن العربي"، إثر نشره كتابا نقديا في دار نشر يديرها، أنا لم أصدق ما قاله نهائيا، لأنني لست ناقدا مهمّا، لا في فلسطين، ولا في نابلس (مدينتي)، فكيف سأكون "ناقداً" مهمّاً من الجيل الجديد على مستوى الوطن العربي؟ أي كذبة كانت.
هذا المادحني بفجاجة ظاهرةٍ، لا تخفى على كل قارئ حصيف، لم يقبل أن أقدّمه في حفل توقيع أحد كتبه، وعندما التقيته في إحدى حفلات توقيع ذلك الكتاب، لم يقدّم لي نسخة من الكتاب هدية، بل كان مدفوع الثمن. لا أذكر ذلك بخلا، ولكن لو كنت ناقدا مهمّا على مستوى الوطن العربي كما ادّعى لبادر بإهدائي نسخة مغلّفة ومكتوب عليها إهداء يليق بمقامي المزعوم.
لقد وصف ذلك الناشر/ الكاتب ذلك الكتاب الذي نشره لي بقوله: "أكثر طرق النقد حداثة". لم يكن وصفه لذلك الكتاب، ودفعت من أجل ذلك ثمنا مضاعفا ثلاث مرات عما لو كنت نشرته في دار أخرى، ويكفي لنشر ثلاث كتب دفعة واحدة، لم يكن قوله ذاك إلا لغايات تسويقية لهذا الكتاب، لناقد يعدّه أهم نقاد الوطن العربي من الجيل الجديد. إذن لقد كانت فرية كبيرة، وكبيرة جدا.
لم تكن هذه هي الحالة الوحيدة التي يكذب فيها الكتّاب في وصفي بالناقد الجيد، مؤخرا تبلغني إحدى الكاتبات المقرّبة من هؤلاء المدّعين أن شاعرا عريقا وروائيا مستجدا يقول عني "ناقد جيد". لم أصدقه بطبيعة الحال، على الرغم في أنها صادقة في النقل، لكنه لم يصدق في الوصف، إذ إنه منذ مدة قد وعد صديقا لي بإرسال كتبه الجديدة لي، وها هي سنتان مرتا ولم يصلني من كتبه شيء. إنه أيضا لا يقول الحقيقة.
أحد الكتاب أيضا لا يعبأ بي "ناقدا"، ولا يلتفت لي، على الرغم من أنه ربما زلة لسان جعلته يقول على هامش أحد اللقاءات: "إنني الناقد القادم". أهديته أحد كتبي النقدية، وكنت حريصا على أن يصله، لا أدري إن وصله أم لم يصله، وكل ما أعرفه أنه لم يتحدث عن الكتاب لا من قريب ولا من بعيد. وربما لم يقرأه، على الرغم مما فيه من موضوعات جديدة في النقد الفلسطيني تحديدا، ومن المفترض أن يهتم بها شخصيا إذ إنه، كما يقال، وكما يدّعي الجميع، "ناقد وكاتب".
كتبت ذات مرة مقالة تناولت فيها رواية لأحد الكتّاب، مقالة نقدية ضافية، يبادرني بالاتصال مادحا وبطريقة مربكة، زاعما أن تلك المقالة القصيرة أعمق ما كُتب في تلك الرواية. أعرف أنه لم يقل الحقيقة أيضا، ولم يكن يجامل كذلك، ولكنه لم يكن حريصا عليّ عندما قدّمني في إحدى حفلات توقيع كتبي، قدّمني وقدّم الكتاب دون أن يكون قد قرأ إلا الفصل الأول منه. كانت ضربة قاصمة لي في ذلك الحفل الفاشل جدا. لم أمتعض ولم أغضب، سار الحفل ارتجالا في
ارتجال، وتمّ توقيع الكتاب وتبادلنا الصور. وبؤت بما يبوء به الكتاب الهامشيون في العادة، في مثل هذه الظروف البائسة، وشربت مرارة المقلب.
يتخذ الموقف ذاته كاتب آخر، ولكنه لم يقدّمني في أي حفل للتوقيع، ولكنه يمدح ما أقدمه من نقد في كتبه، يكتفي بذلك، لم يحاول هو أو غيره في أن أكون مشاركا مثلا في نشاطات وزارة الثقافة أو المؤتمرات والندوات النقدية التي يكونون مشاركين فيها. لا أدري لماذا لكنهم بالمؤكد لن يفعلوا ذلك في المستقبل.
الشعراء ليسوا أحسن حالا من هؤلاء، يتجنبونني شاعرا بحجة أنني "ناقد"، والنقاد والكتاب يتجنبون مشاركتي كوني "شاعرا"، وهكذا أظل أراوح في المكان، متذكرا صيحات معلم الرياضة الذي كان يصدع رؤوسنا بجملته البلهاء "جري في المكان".
ما فائدتك وأنت فقط تجري في المكان؟ لم يراجع المعلم نفسه ليسألها لماذا يظل التلاميذ يجرون في المكان، ولكنني هنا أنا أراجع نفسي لماذا أظل جاريا في المكان نفسه منذ ما يزيد عن عشرين عاما. فإذا كانوا فعلا مقتنعين أن لي حضورا لماذا يحجم الإعلام الرسمي وغير الرسمي عن استضافتي بعد سبعة عشر كتابا مطبوعا وعشرات الكتب المخطوطة ومئات المواد الأدبية المنشورة في صحف ومجلات وازنة في أكثر من أحد عشر بلدا عربيا وأجنبيا. هل يعقل أنهم لم يسمعوا بي حتى الآن؟ يا للخسارة إذن! في حين أن كاتبا أو كاتبة ذا أو ذات مؤلف واحد رديء باعترافهم هم، يستضيفونهم في كل إذاعة وفضائية وبرنامج، وتتبوأ "ترهاتهم" أماكن بارزة في الصحف التي يشرفون عليها، ولا يتوقفون عن مدحهم وهم كاذبون منافقون، لأنهم في الغرف المغلقة والأحاديث البينية لا يتوقفون عن السخرية منهم، سخرية لاذعة تشوّه كل ما يستطيعون تشويهه بحق ومن غير حق أيضا، يكونون سليطي اللسان وبطريقة الزعران، وتشك في أنهم ينتمون إلى عالم المثقفين.
هذه الحالة كانت تستدعي مني الوقوف عليها شعريا، وتناولتها في بعض نصوص ديواني الأخير "ما يشبه الرثاء"، وخاصة قصيدة "أولئك المردة"، وصدّرتها بمقتبس عن نعوم تشومسكي: "المثقف من حمل الحقيقة في وجه القوة"، وهؤلاء لم يحملوا شيئا مهمّا، بل إنهم ليسوا مؤهلين لحمل أمانة مسؤولية ثقافة شعب، كهذا الشعب الذين يصفونه بأنه "شعب الجبارين".
ربّ سائل يسأل لماذا تكتب ذلك؟ لعلك تستجدي. من المؤكد أنني لا أستجدي أحدا، وهم يعلمون أنني لا أستجدي أحدا، ولكنني أقدم شهادة خاصة من منظوري الشخصي على مرض الثقافة المستفحل في هذه الحياة التي كثر فيها الأدعياء والكاذبون الذين يعطونك من طرف اللسان حلاوة ويروغون منك ومني وممن لا يعجبهم كما يروغ الثعلب. فأنا لم أسع يوما لمصداقتهم أو التقرب منهم لعلمي أنهم وباء قاتل في حياة ثقافية لا تتخذ سوى "الكذب الثقافي" منهجا رؤيويا في حياتهم الثقافية التي خلت من كل معنى عميق وحقيقي للثقافة.
كل هؤلاء كانوا يكذبون عليّ كذبا ساذجا لا طعم له، مفضوحا ومعروفا. كاتبة واحدة ووحيدة، هي وحدها لا يعرف الكذب منهجها أصدقها فيما تقوله عني، وأطمئن لكل الأوصاف والألقاب التي تمنحني إياها، فكتاباتي ورؤاي وكتبي ومنهجي محل تقدير عظيم عندها. هي وحدها التي
لم تكذب عليّ قطّ، ولن تكذب عليّ أبدا. رأيها فيّ يكفيني ويغنيني ويشبع فضولي، ويدغدغ غروري، ووحدها من تمدني بالقوة لأستمرّ في الكتابة حتى لو تكاثر الذباب الثقافي على موائد العفن الأدبي، واستمرّ الأدعياء بالكذب، وغرقوا فيه حتى الأذنيْن.
بقلم/ فراس حج محمد