شبح الكساد والركود الاقتصادي يهيمن علي قطاع غزة، مصانع أغلقت أبوابها وأخرى على وشك، وأسوار مهجورة تأوي بداخلها ماكينات في حالة سكون يلتهمها الصدأ، مغطاة بالأتربة والغبار، وعمالة تشردت لفقدانها مصدر رزقها.
ويشهد قطاع غزة منذ أكثر من (12عاماً) انهياراً اقتصادياً واضحاً وملموساً، نتيجة كابوس الحصار الاسرائيلي المفروض على قطاع غزة والحروب المستمرة وضرب البنية التحتية وكافة الأنشطة الاقتصادية، ورافق ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر بين القوى العاملة بالقطاع، وأثر تفاقم الانقسام الفلسطيني وتصفية الحسابات السياسية وإجراءات السلطة بقطع الرواتب وتأخيرها، سلباً على جميع الأصعدة وفي مقدمتها القطاع الاقتصادي، ثم انعكست الإجراءات الاسرائيلية وسياسة الإغلاق المتكرر على القطاعات الإنتاجية الفلسطينية بمنع المواد الخام اللازمة للصناعة ودخول المحروقات، الأمر الذي أدى الى تعطل عشرات الآلاف من العمال في السوق المحلي نتيجة لتوقف الكثير من المصانع والورش عن العمل بسبب الاغلاق المستمر لمعبر كرم أبو سالم المعبر التجاري الوحيد بالقطاع.
وأغلقت أكثر من 80% من مصانع غزة أبوابها بشكل كلي أو جزئي، الأمر الذي ألحق بالقطاع الصناعي خسائر فادحة، وبلغ معدل البطالة بين القوى العاملة بنسبة تزيد عن 54.9%. ومعدلات الفقر فاقت (80%)، مؤشرات خطيرة تستدعي تحركاً عاجلاً تهدد العمود الفقري للأوضاع الاقتصادية وتدهور القطاعات الحياتية في غزة.
يقول ناهض الصفدي وهو صاحب مصانع الصفدي للخياطة في غزة، إن "المصنع رغم المعيقات والصعاب يواصل عمله، حيث يعمل بطاقة إنتاجية 20% مما أثر على عجلة التصنيع والعملية الإنتاجية بخسائر باهظة"، مضيفاً: أن "أكثر من 75 عاملاً انضموا لجيش البطالة في غزة نتيجة الظروف الاقتصادية السائدة في القطاع، واستمرار تأزم الوضع الاقتصادي في غزة سوف يشكل خطراً وتهديداً على استمرار عمل المصنع".
عبد الرازق أبو جلالة صاحب مصنع أبو جلالة للخياطة في رفح، أغلق المصنع بشكل نهائي في عام2007 جراء الحصار وإغلاق المعابر وعدم سماح الاحتلال بإدخال المواد الخام وعدم استيراد الأقمشة من الخارج ألحق بالمصنع خسائر كبيرة نتيجة زيادة النفقات التشغيلية بالمقابل انخفاض البيع والربح.
رأسا على عقب
في غمضة عين انقلبت حياة بشير العصار (43 عاماً) رأساً على عقب بعد انتهاء عدوان 2014 على قطاع غزة، من صاحب مصنع للخياطة إلى محل صغير للتفصيل وتصليح الملابس في أزقة مخيم الشابورة برفح.
وقال العصار إن "مصنع الخياطة كان يستوعب 55 عاملاً يعملون في إنتاج الملابس بأنواعها المختلفة، أغلق جراء غزو البضائع المستوردة السوق المحلي وانخفاض أسعارها مقارنة بالصناعة المحلية". وأضاف: "المشكلة تكمن في ارتفاع تكلفة إنتاج قطع الملابس المحلية بفعل ارتفاع أسعار المواد الخام، حيث أن الكثير من التجار يبحثون عن أسعار منخفضة دون الاهتمام بالجودة، علماً أن المنتج المحلي يتميز بجودة تصنيع عالية".
نحو المجهول
المواطن مهدي أبو راشد (أبو بلال) (49 عاماً) المشهور باسم "خياط العودة للتقصير.." لم يستسلم لواقع إغلاق مصنع الخياطة، مصدر رزقه، بل تحمل المشقة والمعاناة، حيث حمل ماكينة الخياطة واتجه صوب شارع تجاري بدوار العودة في رفح لممارسة مهنته التي شب وتربى عليها، لتوفير قوت أولاده الذي لا يتعدى العشرين شيكلاً يومياً (5.5 دولاراً).
وطالب أبو بلال وعلامات الإحباط ترتسم على ملامحه، بدعم شريحة العمال من اجل تعزيز صمودهم وانقاذ القطاع الصناعي من الانهيار.
ويصف محمد عيد (24 عاماً) العامل في إحدى محلات القدس التجارية في رفح، "الوضع الاقتصادي بالسيئ للغاية، والضعف الشديد للحركة الشرائية رغم انخفاض أسعار الملابس سوى في المواسم والمناسب تشهد انتعاشاً"، معللاً السبب إلى تلقي الموظفين رواتبهم بنسب لا تتعدى الـ50%.
وأوضح عيد أن التجار والباعة تضرروا كثيراً نتيجة كساد الأسواق، مشيراً إلى أن معظم المحلات التجارية أغلق أصحابها أبوابها لتراكم الديون عليهم وعدم مقدرتهم على دفع إيجار محالهم وأجور العمال والضرائب المفروضة.
وتضيف غادة أبو حسن (41 عاماً) صاحبة إحدى مشاغل الخياطة في رفح ، أن "نحو 25 عاملة كن يعملن في المشغل، معظمهن يساعدن أزواجهن في الظروف المعيشية الصعبة". مستدركة "أغلق المشغل جراء عدة أزمات لحقت به، مثل الانقطاع الطويل للكهرباء ونقص المواد الخام".
من جانبه، قال وائل خلف عضو الأمانة العامة للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين "الحركة النقابية غائبة، وتقييد الحريات في الاتحادات النقابية أضعفها عن القيام بواجباتها النقابية للدفاع عن حقوق العمال والتخفيف من معاناتهم، في الوقت الذي حاولت حركة حماس خلق بديل للاتحاد يحمل نفس الاسم ونفس الشعار وعجزت عن تمثيل العمال، بل دافعت عن موقفها الحزبي والسياسي على حساب حقوق العمال".
وطالب خلف السلطة الفلسطينية بوضع برامج للتشغيل وسياسات تضع قضايا وهموم العمال على سلم أولوياتها، للتخفيف من حدة الأوضاع الاقتصادية المتردية ونسب البطالة المرتفعة في قطاع غزة، والعمل على حماية الحريات النقابية.
من ناحيته، قال الدكتور خالد موسى عضو اللجنة التنفيذية في الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، إن "قطاع غزة ينهار بشكل متسارع اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً، بفعل الحصار الذي ضرب كل أسس ومقومات الاقتصاد الفلسطيني". وأوضح موسى أن سلطات الاحتلال تسيطر على كافة المعابر التجارية المؤدية لقطاع غزة، وتمعن في تشديد الحصار لإعاقة عجلة الاقتصاد في غزة وتمرير مخططاته بتنفيذ "صفقة القرن".
من جهته، أوضح رفعت الجمل مدير الغرفة التجارية في رفح، أن التدهور الغير مسبوق للأوضاع الاقتصادية جراء استمرار الحصار الإسرائيلي والانقسام الداخلي والأزمات المفتعلة خلق حالة من الشلل الكامل لكافة القطاعات، ودفعت شباب قطاع غزة نحو الهجرة هرباً من الواقع المرير.
وأكد الجمل أن قطاع غزة بات على حافة الانهيار الكامل اقتصادياً، وسيلقى بظلاله على أصحاب المصانع والتجار الذين أغلقت شركاتهم ومصانعهم وأصبحوا بالسجون لتراكم الديون عليهم في ظل توقف عجلة الاقتصاد في غزة.
خطط استراتيجية
وبدوره، قال مدير عام الصناعة في وزارة الاقتصاد الوطني عبد الناصر عواد إن "وزارته قامت برسم سياسات جديدة، ووضع خطط استراتيجية بناءة وصولاً لإحلال الواردات ودعم المنتجات الوطنية، وتم تطبيق ذلك على الزي المدرسي، لإعطاء فرصة للإنتاج المحلي وتشغيل اكبر عدد من المصانع والعمال". مبيناً أن القرار يشمل بنطلون الجينز وقميص ومريول المدرسة لكافة المراحل المدرسية، والجلباب لطالبات الصف العاشر وحتى الثاني عشر.
ونوه عواد إلى أن الوزارة ستقدم تسهيلات للمصانع والمنشآت لدعم المنتج الوطني بالطرق التي تتناسب مع الجميع، بإعفاء المواد الخام من الجمارك، وتخفيض رسوم الترخيص لـ 50%، وتخفيض فواتير الكهرباء بنسبة 20%، للتخفيف من حجم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية المتفاقمة وعلى رأسها مشكلتي البطالة والفقر.
الوضع الاقتصادي في الرمق الأخير، ولم يعد قادراً على احتمال المزيد من الأزمات في الوقت الراهن. البطالة تفاقمت، والفقر تفشى، وفرص العمل باتت معدومة، وأسر بأكملها باتت تدق أبواب المساعدات الاجتماعية في ظل حصار وفقر وانقسام قضى على كل مشاريع التنمية وإنعاش الأوضاع الاقتصادية.