(1)
لم تقف صفقة «ترامب - نتنياهو»، عند الأبواب المغلقة، بانتظار أن يعلن الرئيس الأميركي عن شقها السياسي، بعد ما كشف عرابها كوشنر عن شقها الاقتصادي، في ورشة المنامة في عاصمة البحرين.
فقد خطت الخارجية الأميركية خطوة لافتة، قرأ فيها المراقبون إشارة واضحة المعالم، تؤكد «تفهم» الولايات المتحدة «لرغبة» حكومة نتنياهو، في ضم الأجزاء الواسعة من المنطقة (ج) في الضفة الفلسطينية، وصولاً إلى خطوط التماس مع غور الأردن.
الخارجية الأميركية نزعت عن خرائطها الرسمية اسم «المناطق الفلسطينية» أو «مناطق السلطة الفلسطينية»، وأصبحت كلها تسمى «إسرائيل»، كما أغلقت الموقع الإلكتروني الخاص بالسلطة الفلسطينية، وأصبح مصدر المعلومات الوحيد عن فلسطين هو الموقع الإسرائيلي.
المأساوي في الضم أن الإعلام الإسرائيلي كان هو مصدر هذا الخبر الخطير. وأن المكتب الصحفي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كان أول من أصدر موقفاً باسم الجبهة، يدين هذا العمل ويستنكره، ويحاول أن يقرأ خلفيته، ودوافعه، ربطاً بتصريحات غرينبلات وفريدمان حول مستقبل القضية والحقوق الفلسطينية، في إشارة إلى مشروع دولة «إسرائيل الكبرى». أما الخارجية في السلطة الفلسطينية، فقد تأخرت أكثر من أربع ساعات، حتى تصدر هي الأخرى، موقفاً رسمياً، لم يتعدّ الإدانة اللفظية، وخلا من أية خطوة عملية يفترض أن تخطوها على الصعيد الدبلوماسي والسياسي. أما الناطق باسم فتح فقد انتظر حتى صباح اليوم الثاني ليعلن موقف حركته، وبعده التحق به بعض الفصائل الأخرى. وهو في حد ذاته مؤشر على غياب المتابعة الرسمية للحالة السياسية، وإفتقارها رؤية سياسية وخطط جاهزة للرد العملي على خطوات «الصفقة»، فضلاً عن افتقارها للإرادة السياسية لمواجهة الولايات المتحدة ميدانياً.
إذ كان بإمكان السلطة الفلسطينية أن ترد على الخطوة الأميركية بخطوات مضادة، ليس من موقع المناكفة، بل من موقع تعزيز الموقع الوطني والدولي للقضية الفلسطينية ولموقع دولة فلسطين في الحسابات الدولية، رداً على محاولات الولايات المتحدة شطب اسم فلسطين عالمياً.
كان بإمكان – بل كان يجب على - السلطة الفلسطينية «أن توقف كل أشكال العلاقة مع الإدارة الأميركية بما في ذلك التنسيق والتعاون الأمني القائم مع وكالة المخابرات الأميركية، التي لا يرجى منها أي خير لشعب فلسطين وشعوب المنطقة والعالم»، على حد تعبير تيسير خالد، عضو اللجنة التنفيذية في م. ت. ف، وعضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
كذلك كان يفترض بالسلطة الفلسطينية مواصلة الانضمام لجميع المنظمات والوكالات الدولية، التي كانت الإدارة الأميركية قد وضعت فيتو أميركياً على انضمام دولة فلسطين لها، بدءاً بمنظمة الصحة العالمية مروراً بمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) وانتهاءً بالمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، كرد طبيعي على استمرار الإدارة الأميركية في مسلسل مواقفها العدائية من المصالح والحقوق الوطنية الفلسطينية.
بقي الرد الرسمي، رداً لفظياً، مجانياً، وهو تعبير عن أزمة، بل مجموعة أزمات تعصف بواقع السلطة الفلسطينية والقيادة الرسمية .
(2)
الجمود السياسي في السلطة الفلسطينية واستنقاعها سياسة الرفض اللفظي المجاني، يؤشر لأكثر من أزمة. في مقدمها الأزمة الأمنية المتصاعدة، مع تصاعد «العمليات الفردية» ضد قوات الاحتلال والمستوطنين، والتي شهدت مؤخراً تطوراً ملموساً في عملية التفخيخ التي شهدتها منطقة «دير إبزيع» غرب مدينة رام الله (مستوطنة دوليف).
التصاعد في الأعمال الفردية، بات مقلقاً لسطات الاحتلال، وللسلطة الفلسطينية، كما يقلقها تلك الانتفاضات الجوالة في أنحاء الضفة الفلسطينية في القدس، وفي شمال الضفة وجنوبها، وشرقها وشمالها.
وإذا ما عدنا إلى ما كشف عنه نتنياهو، لتبين لنا الواقع أكثر صورة وضوحاً. بقول نتنياهو إن قواته وأمنه، أحبطت خلال عام واحد حوالي 300 عملية لأفراد فلسطينيين. وإذا ما أضفنا لهذه العمليات التي أحبطها نتنياهو، إلى تلك التي وقعت فعلاً، لأصبحنا أمام واقع مرعب لإسرائيل وللسلطة، لأنه يؤكد أننا أمام واقع يقول بعملية واحدة يومياً. فماذا إذن تسمى هذه الحالة التي تنشأ عنها عملية واحدة يومياً إن لم تكن انتفاضة حقيقية، لكنها مقيدة بقيود أوسلو والتزاماته واستحقاقاته على السلطة الفلسطينية.
وحتى لا يبقى الأمر نظرياً، من المفيد أن نأخذ بالاعتبار المعلومات التي تتداولها أوساط رام الله وغيرها من المدن الفلسطينية، تتحدث عن ارتفاع وتيرة التنسيق الأمني بين سلطات الاحتلال، وبين أمن السلطة الفلسطينية، خوفاً من انفجار الأوضاع بشكل «مفاجئ» للطرفين معاً. ولعل ما تحفل به وسائط التواصل الاجتماعي في مناطق السلطة الفلسطينية من تعليقات، مؤشر لحقيقة الأجواء التي تعيشها الضفة الفلسطينية. لذلك لعل مبادرة أصحاب كاميرات المراقبة في محيط عملية المفخخة في رام الله، إلى الإسراع إلى إتلاف أرشيف كاميراتهم حتى لا يستفيد منه أمن الاحتلال في مطاردة أبطال العملية، من شأنه هو الآخر أن يعطي مؤشراً شديد الوضوح على طبيعة الأجواء السائدة في البلاد.
ولم تتردد الدوائر الأمنية الإسرائيلية عن رفع تقاريرها إلى القيادات السياسية في القدس المحتلة، تحذرها من مخاطر الأزمة المركبة التي تعيشها السلطة الفلسطينية. أزمة أمنية بفعل تصاعد العمليات الفردية، وأزمة اقتصادية، بفعل توقف السلطة عن استلام أموال المقاصة، منقوصة ما قيمته رواتب وتعويضات عائلات الشهداء والأسرى، التي تدفعها السلطة الفلسطينية.
قلق الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من انهيار السلطة، سببه الرئيس، حرص هذه الأجهزة على إدامة التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية. وقد شككت التقارير الإسرائيلية في أن يبدي ضباط الأجهزة الفلسطينية التعاون الضروري في ظل وضع اقتصادي متردي، بعد أن خسروا ما يعادل 40 – 50% من رواتبهم، لافتقار السلطة الفلسطينية إلى الإيرادات. لذلك لعبت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الدور الفاعل في الضغط على القيادة السياسية الإسرائيلية، للعمل على «إنقاذ السلطة الفلسطينية» و «إنقاذ أجهزتها الأمنية» من الانهيار.
(3)
بناءً على توصية من الجهاز الأمني الإسرائيلي، انعقدت في القدس المحتلة، سلسلة اجتماعات، ضمت عن الجانب الفلسطيني وزير المال في السلطة الفلسطينية شكري بشارة، ووزير الإدارة المدنية (ضابط الاتصال مع قوات الاحتلال) حسين الشيخ. أما عن الجانب الإسرائيلي فقد حضر وزير المال في حكومة نتنياهو، موشيه كحلون، وإلى جانبه رئيس الإدارة المدنية، أبو بركان. ولم تعتبر السلطة الفلسطينية هذا اللقاء انتهاكا لقرار مقاطعة سلطات الاحتلال، بل اعتبرته شكلاً من أشكال التنسيق.
عرضت فيه الأوضاع المالية المتدهورة للسلطة الفلسطينية، وطلبت إيجاد حل للمسألة.
الجانب الإسرائيلي تقدم باقتراح، شكل، باعتراف المراقبين، التفافا على قرار وقف استلام أموال المقاصة.
يقضي الاقتراح بإخراج ضريبة الوقود (البلو) من أموال المقاصة، وهي الضريبة التي كانت تجنيها الإدارة الإسرائيلية نيابة عن السلطة عن الوقود المستورد من إسرائيل إلى مناطق السلطة، وهي تشكل 31% من حجم إيرادات المقاصة، وتتراوح نسبتها عادة من المقاصة حوالي 34.2%، ويبلغ الإيراد الشهري لهذه الضريبة حوالي 207 مليون شيكل (58.6 مليون دولار). على أن تتولى السلطة، نفسها هي فرض الضريبة مباشرة على المستهلكين، وبأثر رجعي لمدة 7 أشهر، هي المدة التي توقفت فيها السلطة عن استلام أموال المقاصة. أي، بتعبير آخر، اتفق الطرفان على أن «تفرج» إسرائيل عن 1450 مليون شيكل (416 مليون دولار) بما فيها شهر آب (أغسطس)، هذا «الحل»، اعتبرته سلطة الاحتلال تراجعاً عن قرار رفض استلام أموال المقاصة فيما اعتبرته السلطة الفلسطينية اتفاقاً لا علاقة له بأموال المقاصة، علماً أن رجال الاقتصاد، دون استثناء، اعتبروه اقتراحاً إسرائيلياً، يمكن السلطة، من الالتفاف على قرارها بشأن أموال المقاصة، ويوفر لها في الوقت نفسه حلاً – ولو ناقصاً – لأزمتها المالية، ويمد في عمرها لأشهر إلى الأمام بانتظار ما سوف تسفر عنه التطورات اللاحقة.
السلطة من جانبها اعتبرتها خطوة انفراجيه، وأعلنت أنها سوف تدفع للموظفين هذا الشهر 110% من رواتبهم، وهي 60% من الراتب الحالي، و50% من رواتب الأشهر الماضية. لكن فرحة الموظفين لم تدم طويلاً. إذ أعلنت المصارف المقرضة للموظفين أنها سوف تستقطع من رواتبهم 55% من أصل 110%، هي 40% من رواتب الشهر الحالي، و15% من القروض السابقة التي لم تسدد، وبالتالي يبقى من أصل 110% للموظفين حوالي 45% فقط لا غير، ما يؤكد أن الأزمة المعيشية مازالت قائمة ولم تجد طريقها إلى الحل.
(4)
ماذا قرأ المراقبون في هذا التطور؟
1) أن الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية أزمة عميقة، هي نتاج لحالة الاندماج الاقتصادي الفلسطيني في الاقتصاد الإسرائيلي، ولاعتماد الجانب الفلسطيني على الشيكل كعملة متداولة، ما أحدث تقييداً صارماً للاقتصاد الفلسطيني، وأبقاه عرضة للقلق ربطاً بتقلبات الوضع الاقتصادي الإسرائيلي.
2) أن مصدر التمويل الرئيس للسلطة هي الضرائب التي يجبيها عنها رجال الإدارة المدنية التابعة لسلطة الاحتلال. وبالتالي فإن مفتاح الخزينة الفلسطينية هو بيد الإدارة المدنية، هي تقرر متى تفرج عن الأموال، ومتى تحجبها، وبالتالي هي تتحكم بالسوق المالية للسلطة الفلسطينية.
3) أن الحديث عن «الانتقال من السلطة إلى الدولة»، ثبت أنه حديث سخيف. ما يجري حقيقة هو تراجع حاد في صلاحيات السلطة، وتبعيتها القاتلة لسلطة الاحتلال وإدارتها المدنية.
4) أن قيود اتفاق أوسلو الأمنية، وبروتوكول باريس الاقتصادية، حولت السلطة والفلسطينيين في مناطقها، إلى رهائن لقرارات سلطة الاحتلال. وأن السلطة الفلسطينية وطوال أكثر من ربع قرن، لم تمتلك رؤية بديلة للحالة القائمة، وأن الحديث عن الانفكاك الاقتصادي، مجرد لغو إذا لم يستند إلى خطة سياسية اقتصادية مدروسة، تمكن المجتمع الفلسطيني من التحرر من قيود بروتوكول باريس واتفاق أوسلو. لذلك اضطرت السلطة للرضوخ والتراجع عن قرار وقف استلام أموال المقاصة، وقبلت بالاقتراح الإسرائيلي.
5) أن الحل الذي تم التوصل إليه مع سلطات الاحتلال، هو حل مؤقت، يمكن لسلطة الاحتلال التراجع عنه إذا ما رغبت في الضغط السياسي على السلطة الفلسطينية.
6) إن الاقتصاد الوطني شديد الهشاشة. فالسوق التجارية تعتمد على القوة الشرائية للموظفين بشكل خاص. وقروض المصارف تتوجه بشكل رئيسي نحو الموظفين. وعند عجز الموظفين عن تسديد قروضهم، يتعرض النظام المصرفي للخطر. وعندما تتأخر رواتبهم أو تنخفض تصاب السوق التجارية بشيء من الركود. وهذا واحد من الثمار السامة لاتفاق أوسلو وبروتوكول باريس، وسلطة بيروقراطية، أنشأت طبقة عليا، استهلاكية، بنت لنفسها مصالح ومكاسب، مستندة إلى نظام مالي واقتصادي ريعي هش، عماده الضرائب المسيطر عليها من قبل سلطة الاحتلال، وقروض ومنح خارجية، محكومة بالشروط السياسية.
بقلم/ معتصم حمادة