الجسور فهمي السلفيتي

بقلم: علي بدوان

 

(الصورتين : المرحومين فؤاد نصار، وفائق وراد من مؤسسي عصبة التحرر الوطني في فلسطين قبل النكبة، وعضوي المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية اللذين كانا في عضوية المجلس كفعاليات وطنية وليس كممثلين لأي طرف حزبي)

في صيف العام 1975، وكنت قد ترفعت من الصف الأول الثانوي الى الثاني الثانوي، في ثانوية اليرموك، وقد دعاني صديق وزميل المدرسة (الخليلي) حسني محتسب، لرحلة ليومٍ واحد، ولتناول الغداء في مصيف (مضايا) في الريف الشمالي الغربي لدمشق، مع أخرين، وهو ماتم. لكن المفاجأة كانت بوجود عدد من الأشخاص، كان منهم القائد الفلسطيني والمؤسس في عصبة التحرر الوطني قبل النكبة فهمي السلفيتي، فزاد الأمر من خجلي وتحفظي. حيث بدأت جلستنا على طاولة كبيرة تحلق حولها نحو عشرة أشخاص، ورغم فارق السن بين الحضور، وقف المرحوم فهمي السلفيتي، وبدأ ينشد نشيد خاص، سمعته لأول مرة في حياتي، فكان هو النشيد الأممي :

هبو ضحايا الإضطهاد ... ضحايا جوع الإضطرار

بركان فكر في اتقاد ... هذا أخر انفجار

هـيا نمحــو كـل ما مـر ... ثــوروا حـطـموا الـقـيــود شـيـدوا الكون جديداً حر ... كــونوا أنــتـم الـوجود

بجموعٍ قوية هبوا لاح الظفر

غد الأممية يوحد البشر

النشيد اياه، كُتِبَ تخليداً لذكرى كومونة باريس، على يد الشاعر الفرنسي أوجين بوتييه. واستخدمت الترجمة الروسية كنشيد وطني للإتحاد السوفييتي بين عامي 1917 و1944، حيث تم استبداله بعدها بنشيد السوفييت. وتُرجم النشيد إلى أكثر من مائة لغة حول العالم. كانت تلك المرة الأولى والأخيرة، التي جلست خلالها مع فهمي السلفيتي.

ولكن، من هو المرحوم فهمي السلفيتي، الذي طواه النسيان بعد رحيله عام 1976 رحمه الله..؟ انه مؤسس في الحركة الوطنية الفلسطينية واتجاهاتها اليسارية قبل النكبة، وتحديداً عصبة التحرر الوطني، التي رافقت تطورات وتفاعلات الوضع الفلسطيني. ففي ربيع العام 1951 أصدرت قيادات عصبة التحرر الوطني التي ولدت من رحم الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1943 (وهو الحزب الذي كان يضم اعضاء عرب ويهود وبأغلبية عربية)، بعد سيطرة التيار اليهودي المتصهين على الحزب، والتي بقيت في الضفة الغربية بعد النكبة،

وثيقة سياسية أعلنت فيها "انطلاقاً من الواقع الجديد وبعد ضم الأقسام المتبقية من أرض فلسطين إلى شرقي الأردن ضمن نظام سياسي واحد يضم الأردنيين والفلسطينيين، ومن أجل العمل لنضال متواصل لتحرير الأردن من السيطرة البريطانية مع المحافظة على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه في فلسطين حسب قرار التقسيم لعام 1947 فإن عصبة التحرر الوطني أصبحت تعمل تحت اسم الحزب الشيوعي الأردني"، وأصبحت العصبة بقيادة فؤاد نصار، فهمي السلفيتي، عربي عواد (أبو الفهد)، رشدي شاهين، فائق وراد، عبد العزيز العطي (أبو الوليد)....

الخلافات والإجتهادات دبت في صفوف الحزب الشيوعي الأردني نتيجة التباين في تقييم ماحصل عام النكبة، وقصور الرؤية والتخبط الذي أصابها نتيجة الإنشطارات المتتالية التي توالدت داخل العصبة والحزب الشيوعي الأردني الذي انبثق عنها، وهو تخبط رافق الحزب وقادته لسنوات طويلة بدأت من خمسينيات القرن الماضي، فبرز صراع حاد بين اتجاهين : اتجاه قومي يقوده فائق وراد، عربي عواد، إسحق الخطيب، عبد العزيز العطي … واتجاه "كوزموبوليتي يغلّب الأممي على الوطني" بقيادة فؤاد نصار، وفهمي السلفيتي... فطرح فريق فؤاد نصار رؤية للقضية الفلسطينية أشار فيها إلى إمكانية "إحداث وحدوث" تحوّلات ديمقراطية داخل "إسرائيل" ذاتها، فرأى أن تسليم قطاع غزة عام 1948 لنظام ديكتاتوري في مصر كان خطأً جسيماً، وأن بقاءها ضمن "إسرائيل" التي نشأت بفعل النكبة أفضل بكثير لإشراك الجماهير العربية في القطاع بالنضال الديمقراطي داخل "إسرائيل". وانتهت الأمور بتطورات لاحقة، كان منها خروج تيار (الكادر) بقيادة فهمي السلفيتي ومعه من القيادة أميلي نفاع ورشدي شاهين واخرين ... أوائل سبعينيات القرن الماضي من الحزب، وتشكيله إطار تنظيمي أخر. الى حين اعادة الوحدة لصفوف الحزب في السنوات الأخيرة بعد انقسام طال زمنياً.

المهم في الأمر، أن شخصية فهمي السلفيتي المحورية والإشكالية، كانت حالة اساسية في التطورات التي وقعت في صفوف عصبة التحرر الوطني، واستنساخاتها التالية، وقد برزت مواقفه من مسائل عديدة، كان منها مسألة العمل الفدائي المسلح، حين اعتبره "ظاهرة مغامرة"، وأن طريق "الكفاح الشعبي السلمي" هو الطريق الأجدى والأفعل. وعلى ذمة أمين عام يساري كما قال لي نقلاً عن لقاء جمعه مع فهمي السلفيتي في أوج الوجود العسكري والتنظيمي الفلسطيني فوق الساحة الأردنية، وفي اشارة من السلفيتي بقلمة لموقع فلسطين على مجسم الكرة الأرضية : "ماذا يفيدني اذا ربحت هذه، وخسرت العالم"...!

على كل حال، ومهما كانت التباينات والإختلافات مع فهمي السلفيتي، لكن وبشهادة من عاصره وعايشه، كان جسوراً، ومقداماً، ومدافعاً عن مواقفه واطروحاته، التي كان يعتبرها طريق فلسطين للخلاص.

بقلم/ علي بدوان