ناجي العلي المؤذن الشرس ضد التطبيع والمطبعين

بقلم: خالد الفقيه

ولد الفنان ناجي سليم حسين العلي في قرية الشجرة بالجليل الأعلى قرب الناصرة في فلسطين عام 1936، ويرتبط اسم القرية بالسيد المسيح عليه السلام الذي تقول بعض الدراسات التاريخية أنه استظل تحت إحدى أشجارها، وهو ما قد يفسر اهتمام الفنان فيما بعد بإظهار آلام السيد المسيح كدلالة على معاناة الشعب الفلسطيني.

عاش ناجي العلي في كنف أسرته ذات الأصول الفلاحية. وشهدت الشجرة قبل النكبة عدة مناوشات بين السكان العرب والمستوطنين اليهود الذين هاجموا القرية عدة مرات، ولكن بمساندة أهالي القرى المجاورة استطاع الفلسطينيون صدهم أكثر من مرة. خلال هذه المواجهات، سقط عدد من أبناء القرية شهداء وجرحى. تأثر ناجي منذ نعومة أظافره بأصوله الفلاحية حيث نزل مع والده وأسرته إلى الحقل مبكراً، الأمر الذي يفسر فيما بعد حضور الأرض وعشقها في إبداعاته الفنية، وعندما كان في عمر العشر سنين حدثت الحرب المعروفة بالنكبة، وكانت قرية الشجرة إحدى ساحاتها. قتل اليهود وشردوا السكان وهدموا البيوت وأزالوا معالم القرية عن الوجود. استشهد العديد من المدافعين عن الشجرة ومنهم الشاعر الوطني، عبد الرحيم محمود. رغم حداثة سنه عند سقوط فلسطين عام 1948، إلا أنه أكد فيما بعد تأثره بما رسخ في ذهنه من مجازر، ومنها استلهم بعض رسوماته.

ناجي في المخيم

اتجه ناجي وأسرته بعد حرب عام 1948 إلى جنوب لبنان كما باقي أهل الشجرة والقرى المجاورة، وبقوا في البساتين طيلة صيف ذلك العام على أمل العودة إلى ديارهم. وبعد أن دهم الشتاء جماهير اللاجئين وطال انتظارهم العودة تحت أشجار بنت جبيل اللبنانية التي تعود لأحد أصدقاء والده، قررت العائلة وباقي المهجرين من الفلسطينيين الرحيل مرة أخرى لتحط بهم المسيرة فيما بات يعرف بمخيم عين الحلوة القريب من صيدا.

حياة المخيم لجيل ينحدر من الأصول الفلاحية القروية كانت صعبة، وكان على ناجي وباقي اللاجئين الفلسطينيين التأقلم مع واقعهم الجديد الذي أستُبدلت فيه منازلهم بخيم وزعتها وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة التي أنشئت بقرار دولي بعد حرب عام 1948 وما نتج عنها من تشريد لمئات الآلاف من الفلسطينيين. وفي ظل هذا الواقع المستجد تبلورت بدايات الوعي الأولى لدى ناجي. قام والده في المخيم، بتحويل خيمتهم الوحيدة إلى قسمين: الأول لحياة الأسرة المكونة من ناجي وأبيه وأمه وأخوته الثلاثة، والثاني حوله إلى دكان صغير لتقتات منه العائلة. رغم الحالة الاقتصادية الصعبة للعائلة إلا أن أباه أصر على إرساله للمدرسة التابعة لاتحاد الكنائس المسيحية، ولكن تعذر عليه إكمال تحصيله العلمي فاتجة مثل باقي أقرانه من اللاجئين للعمل أجيراً في قطف الحمضيات لمساعدة الأسرة على تلبية احتياجاتها اليومية. هناك عرف قيمة الارتباط بالأرض والتحول من مالك إلى أجير. عقب ذلك توجه برفقة صديقه محمد نصر الذي أصبح لاحقاً شقيق زوجته وداد إلى إحدى المدارس التابعة للرهبان البيض في طرابلس ليتعلم مهنة الميكانيكا لمدة عامين، عاد بعدها وافتتح ورشة لتصليح السيارات داخل خيمة أعدها لذلك في حرش مخيم شاتيلا.

التطبيع عنده خيانة

التطبيع مع الاحتلال الصهيوني مرفوض في ثقافة فناننا، والمطبعون في نظره من دونية الناس، وإذا أتيحت الفرصة لهم فمن شأن ذلك أن يمسح عذابات الشعب الفلسطيني من الذاكرة ويحول الصراع إلى نزاع بين جارين. في ثقافة ناجي لا يوجد فرق بين اليمين واليسار في الكيان الصهيوني فكل إسرائيلي يستوطن في فلسطين المحتلة هو مغتصب تجب محاربته وإخراجه منها وتطهيرها. إسرائيل بدورها ومن خلفها الولايات المتحدة ربطتا تاريخياً أية آفاق للسلام مع جيرانها العرب بتطبيع كامل للعلاقات معها، وهذا حذر منه ناجي العلي، وأشغل ريشته في فضحه والتمرد عليه.

هاجم في إحدى إصداراته الشاعر الراحل محمود درويش، ووصفه بالخيبة الأخيرة عندما أجرى مقابلة مع صحيفة عبرية، واستعار وصف الخيبة لدرويش من إحدى قصائده التي قال فيها في وصف بيروت: بيروت خيمتنا الأخيرة، فقال عنه ناجي بعد المقابلة، محمود خيبتنا الأخيرة. مجلة الكرمل التي كان محمود درويش يرأس تحريرها وفي عددها الثاني عام 1981 كانت انتقدت وبشدة لقاء الأديب المصري نجيب محفوظ مع السفير الإسرائيلي في القاهرة، ووصفته بالسقوط في شرك الولاء للسياسة وتعامل غير مقبول مع الصهاينة. في العام 1987 أدلى درويش بحديث لجريدة يديعوت احرنوت العبرية، تحدث فيه عن السلام وضرورة مد الجسور مع اليسار الإسرائيلي. استنفر ناجي قواه بعد هذه المقابلة وهجم بشدة على محمود درويش، ما دفع الأخير لتهديده وفق ما روى العلي نفسه لمجلة الأزمنة العربية خلاصة الحديث بينهما، وذلك حسب ما نقل شاكر النابلسي في كتابه أكله الذئب في الصفحات من 428 إلى430 عن عدد المجلة المذكورة في صفحتها الرابعة عشرة وعددها المئة وسبعين عام 1987.

خشي ناجي في نقده للتطبيع الفلسطيني مع الإسرائيليين أن يكون هذا الأمر مدخلاً لتطبيع عربي كامل وشامل مع الكيان الصهيوني. أو على الأقل قيامهم بتطبيع سري مع إسرائيل، واتخاذهم التطبيع الفلسطيني جسراً لذلك، فوصف المهرولين بالخونة والشياطين، والشياطين عنده لا تجوز عليهم إلا اللعنة والقذف بالحجارة وهكذا فعلاً قدمهم لجمهوره.

المنظمة والتقارب مع امريكا

معروف أن الولايات المتحدة كانت لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني حيث قرر إريك جونسون مبعوث الرئيس الأمريكي آيزنهاور Eisenhower عام 1953 إلى المنطقة أن الفلسطينيين مجموعة لاجئين إذا توفر المال لتعويضهم حلت قضيتهم. بقي الأمر كذلك حتى العام 1975، حيث بدأت أمريكا تعترف بوجود شيء إسمه الشعب الفلسطيني، وبدأ إجتذاب القيادة الفلسطينية نحو الصالونات السياسية الدولية. أسفرت هذه الخطوات عن قبول منظمة التحرير الفلسطينية كعضو مراقب في الأمم المتحدة وهو ما لم يرق للعلي. فخط عدة لوحات كان من بينها رسم لفدائي فلسطيني يدخل قاعة الأمم المتحدة وهو يحمل سلاحه كمندوب عن المنظمة، وقد وضع فوق شعار المنظمة المثبت فوق مدخل الأمم المتحدة ببندقية علامة على أن الطريق إلى فلسطين تمر عبر فوهة بندقية الكفاح المسلح، لا الجيوش النظامية والحروب الكلاسيكية، وأن الصالونات السياسية لن تعيد للفلسطينيين وطناً وللعرب أيضاً.

فعدا عن امتلاكه لتحليل الحس التاريخي، يمكن القول إن ناجي العلي كان راداراً سياسياً بامتياز ومجساً للمستقبل، ومن هذا المنطلق ظل يردد بأن أمريكا لن تجلب الخير للفلسطينيين والعرب، فهي لا تقل عداوة لهم عن إسرائيل، ورأى أن الاقتراب منها والتقارب معها لن يجلب للقضية الفلسطينية إلا مزيداً من الدمار وجراً نحو الحل السياسي الذي كان يطلق عليه اسم الحل السياحي، حيث سبق لإسرائيل أن رفضت اقتراح الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة عام 1965 الذي طالبها فيه بثلث الأراضي التي احتلتها منذ إقامتها من أجل توقيع اتفاق سلام معها، وصف العرب والفلسطينيون وقتها أبو رقيبة بالخيانة، لكنهم عادوا لاحقاً ليطالبوا بأقل من ذلك. جعل ناجي من حنظلة ممثلاً للشعب الفلسطيني المسحوق الذي يدفع ثمن التقارب الأمريكي الفلسطيني الرسمي في إحدى رسوماته تأكيداً منه على تحذيراته. مواقفه الثورية أدت لاغتياله.

الاغتيال الأول

أغتيل ناجي العلي في لندن أثناء توجهه إلى جريدة القبس الدولية وذلك في شارع ايفز EVES بعد أن أوقف سيارته على جانب الشارع. وتفيد العديد من الكتابات والتحقيقات أن شاباً أسمر البشرة اقترب منه بعد ترجله من سيارته وأطلق الرصاص على رأسه قبل أن يلوذ بالفرار من المكان وذلك صبيحة يوم الأربعاء الموافق 22/07/1987. أدخل ناجي العناية المكثفة في أحد المشافي البريطانية وبقي فيه إلى أن وافته المنية يوم 29/08/1987. تم دفنه في الثالث من أيلول من ذات العام في مقبره بروك وود Brook Wood، ووري الثرى في قبر يحمل الرقم 230190. أقفلت السلطات البريطانية ملف التحقيق في ظروف اغتياله. وفقاً لرواية الشرطة البريطانية فإن: الشاب مجهول الهوية" الذي أطلق النار على ناجي العلي قد سار بمحاذاته وأطلق النار عن قرب على وجه ناجي حيث اخترقت الرصاصة صدغه الأيمن وخرجت من الأيسر.

عقب اغتياله كثرت الاتهامات للجهات التي يمكن أن تكون وراء مقتله. اعتقلت الشرطة البريطانية فلسطينياً على خلفية الحادث يدعى حسن صوان واعترف بعلاقته بالموساد.

دفن ناجي في لندن، ورثاه العديدون من الكتاب والإعلاميين والشعراء بعيداً عن الوطن الأول وعن المخيم الذي أعطاه كل وقته. رسم ناجي عشرات الآلاف من رسوماته. وأصدر خلال حياته ثلاثة كتب وكان يتهيأ لإصدار الرابع. نشر أكثر من 40 ألف لوحة كاريكاتيرية طيلة حياته الفنية، عدا عن المحظورات التي مازالت حبيسة الأدراج، ما كان يسبب له تعباً حقيقياً. قضى ناجي بكاتم الصوت الذي كان يتوقعه في إحدى رسوماته لدى تناوله في إحدى رسوماته حالة الديمقراطية في الوطن العربي. امتلك ناجي أيضاً حدساً من نوع خاص كما سنرى لاحقاً، فبشر بالانتفاضة في الأراضي المحتلة عام 1967 وتنبأ بمسلسل التسويات السياسية وتراكض الأنظمة العربية نحوها.

اغتياله الثاني

عقب اغتياله المؤثر كتب الكثيرون عن ناجي تخليداً له، وبكاءً عليه، كان من بين من خلدوا ذكراه الفنان الرسام و النحات اللبناني شربل فارس الذي صنع له نصباً في الذكرى السنوية الأولى لرحيله بعد عمل استغرق عدة شهور. أكمل شربل النصب ووضعه على المدخل الشمالي لمخيم عين الحلوة الذي ارتبط ناجي به وجسده في العديد من رسوماته، إلا أن التمثال الذي بلغ ارتفاعه 275 سم وعرضه 85 سم تعرض للتخريب والتفجير وإطلاق الرصاص عليه ومن ثم الاختفاء عن المكان الذي وضع فيه، التمثال من الأمام، يحمل الفنان ]ناجي العلي[ رسومه بيد وتشكل قبضة اليد الثانية بعروقها البارزة رمزاً لحجر الانتفاضة في فلسطين (وكان الفنان الشهيد أول من بشّر بها في رسوماته). كان شربل الذي ارتبط بعلاقة صداقة حميمة مع ناجي، دشن النصب استجابة لطلب من جمعية ناجي العلي الثقافية. اندفع شربل فارس يغوص في ذاكرته ليجد ما يعطي الفنان حقه فاستحضر كل المواقف التي جمعتهما معاً ليستقي منها التصميم، "كنت أشعر في ذلك الوقت أنني أتقمص هذا الشخص، أتقمصه فناناً مناضلاً، وشهيداً، كنت أصنع فعله أكثر مما أصنعه كشخص، وكان الهم الأساسي ليس الشبه في وجه ناجي وجسده. بقدر فعله.

اختير مدخل المخيم لأن ناجي كان أوصى بأن يدفن فيه إلا أن الأمر تعذر. مع تدشين النصب وتنظيم احتفال لإزاحة الستار عنه حضرت مجموعة مسلحة وطوقت المكان وفجرته. بعد ذلك أعيد نصب التمثال إلا أنه تعرض لاعتداء آخر من قبل مجهولين حيث أطلقت النار على عينه ودمرت يده قبل أن يختفي بالكامل من المكان.

ما تقدم يشير إلى أن ناجي كان يحوز على عداء الكثيرين كونه لم يساوم في مواقفه. فحتى نصب تخليد ذكراه جرى اغتياله وبهذا يكون قد اغتيل مرتين، لكن حنظلة ورسوماته الأخرى بقيت من بعده ولازالت تنشر حتى اليوم رغم رحيله المفجع والمأساوي.

 

بقلم الإعلامي: خالد الفقيه