وعد الفلسطينيين بحل أزماتهم الاقتصادية وتيسير أحوالهم المعيشة من أبرز العناوين المفضلة لدى إدارة ترامب في تسويق صفقتها. ولذلك، يُكثر فريقها من الحديث عن الشق الاقتصادي في الخطة الأميركية على الرغم من فشل الورشة التي عقدوها في البحرين.
ومع أن الجميع يعلم أن العناوين السياسية الرئيسية من الخطة قد طُرحت، ورسمت الإجراءات والمواقف العملية مسار أهدافها بوضوح، إلا أن إدارة ترامب تصر على أن الشق السياسي من خطتها لم يطرح بعد، وأن المواقف التي أعلنت ضدها أو انتقدتها إنما هي مواقف مسبقة لا تستند إلى معطيات واقعية.
والمفارقة، أن إدارة ترامب، التي تغدق الوعود للفلسطينيين بالرفاه، هي ذاتها من يعمل ويشجع على تعقيد أزماتهم والتضييق على سبل حياتهم ومصادر رزقهم وإبقاء الباب الوحيد المفتوح أمامهم وبخاصة الشباب هو الهجرة.
في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي مواقع اللجوء يتعرض الفلسطينيون إلى سياسات منهجية تسعى إلى وضعهم أمام خيارات تتناقض مع طموحاتهم وآمالهم. وعلى تعدد جبهات هذه السياسات واختلاف آليات تطبيقها، إلا أنها تتحد في أهدافها.
· ففي الضفة الفلسطينية يأخذ الاستيطان مسارا يتوافق مع أهداف المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي ليرسم خريطة عملية لكيانية فلسطينية ينحشر فيها الفلسطينيون في أضيق مساحة من أراضيهم، فيما يطلق العنان لمشاريع البناء الاستيطاني في المنطقة «ج» تمهيدا لضمها إلى إسرائيل بموافقة تسعى حكومة نتنياهو إلى ترسيمها من قبل إدارة ترامب. وتعتبر هذه الحكومة ورئيسها أن صفقة ترامب رافعة لتحقيق مشروع «إسرائيل الكبرى ، وإلغاء قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وفي مايخص القدس، اتضح التطابق بين عناوين صفقة ترامب والمشروع التوسعي الإسرائيلي حول مستقبل المدينة عبر القرارات والإجراءات الأميركية المعروفة التي اتخذت بشأنها. وفي سياق ذلك، ينشط الاحتلال في عمليات هدم البيوت ضمن حملة التطهير العرقي التي يشنها على محيط المدينة كي يعزلها عن الضفة الفلسطينية، ويلغى أنها العاصمة الفلسطينية المفترضة.
وبذلك، يستقطع من أراضي الضفة مناطق واسعة بما عليها وفيها من ثروات كـ«ثمن» للموافقة على الكيانية الفلسطينية الهزيلة مسلوبة السيادة.
· وفي قطاع غزة، تضع تل أبيب أزمات القطاع في ميزان المقايضة على مستقبله السياسي من زاوية القطع مع البرنامج الفلسطيني التحرري. وتأتي مسيرات العودة من ضمن هذه المقايضات في سياق الشروط الإسرائيلية عند البحث في التهدئة واجراءات تخفيف الحصار.
ومع مجيء إدارة ترامب وطرح الصفقة الأميركية، بات القطاع يشكل محورا أساسيا في حسابات فريق ترامب لتمرير الصفقة، عبر تكريس الانقسام الفلسطيني وتأبيده، ووضع القطاع ضمن مشروع كيانية فلسطينية يكون هو أساسها، وطرحت سيناريوهات متعددة لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من النفي الأميركي لهذه السيناريوهات إلا أن الثابت أن إدارة ترامب انضمت إلى حكومة نتنياهو في سياستها تجاه القطاع من زاويتين: تأبيد الانقسام الفلسطيني ، والتعامل مع كل من الضفة والقطاع كمسارين منفصلين، وهي سابقة في السياسة الأميركية التي تعاملت معهما سابقا كوحدة إدارية واحدة.
· إضافة إلى القدس، وجهت إدارة ترامب نيران استهدافها نحو قضية اللاجئين الفلسطينيين. وإذا كان الموقف الأميركي هو بالأساس ضد هذه القضية من زاوية عدم الاعتراف بحق عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها منذ العام 1948، إلا أن إدارة ترامب شنت حربا مباشرة على «الأونروا» ، وابتدعت مفهومها الخاص للاجئ الفلسطيني بإزالة صفة اللجوء عن أبناء اللاجئين الذين طردوا من فلسطين وأنسالهم. وتسعى إدارة ترامب إلى إنهاء دور الأونروا تجاه اللاجئين، الذين يتعرضون هذه الأيام إلى حملة شرسة تستهدف تهجيرهم.
وتنضم إدارة ترامب إلى سياسيات الحكومات الإسرائيلية في العداء لكل ما يرمز إلى قضية اللاجئين، ولا يقتصر الأمر على استهداف الأونروا وتغيير تعريف اللاجئ بل يتعداه إلى العداء للمخيمات الفلسطينية ومواقع لجوء الفلسطينيين. ولذلك، وبينما كانت مشاريع التوطين على رأس اهتمام الإدارات الأميركية السابقة، فإن التهجير هو العنوان الأول في اهتمام إدارة ترامب، وهي تمارس ضغوطا كبيرا على عدد من الدول كي تشجع اللاجئين الفلسطينيين على القدوم إليها.
على هذا الأساس، من الطبيعي أن ترى دولة الاحتلال في صفقة ترامب عاملا حاسما في التقدم بمشروعها التوسعي الاستعماري، وخاصة اتحاد عناوين هذه الصفقة مع مشروع نتنياهو «السلام الاقتصادي»، والانتهاء بالتالي من مطالب الانسحاب من مناطق في الضفة الفلسطينية كما ورد في خطط ومبادرات أميركية سابقة.
ومن الواضح أن الاختلاف الجوهري فيما أتت به إدارة ترامب عن سابقاتها من الإدارات الأميركية، أن خطتها تطبق بالتدريج خطوة خطوة تحت ساتر الطلب من الآخرين الانتظار حتى يتم إطلاق الخطة!
يمكن القول إن ما يساعد إدارة ترامب في المضي في مسلسل إطلاق إجراءاتها وخطواتها العدوانية هو أنها لم تخض معركة جدية دفاعا عن هذه الإجراءات، والمرتان الوحيدتان التي أحست فيهما بالعزلة كانتا في الأمم المتحدة ، لكنها في المنطقة العربية وجدت الطريق سالكا مع استجابة عدد من الرسميات العربية للطلب الأميركي بالتطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي. وحتى عندما تدرك بعض العواصم العربية أن إجراءات الصفقة الأميركية تمس بمصالحها فإن اعتراضها يكون خافتا وأقرب للصمت.
في الجانب الفلسطيني ، وقع إجماع سياسي وشعبي على رفض الصفقة وكانت القيادة الرسمية الفلسطينية ضمن هذا الموقف وهذه مسألة إيجابية ويمكن أن تترجم إلى إجراءات مناهضة للصفقة على الأرض. في هذا الجانب لم يحدث شيء ، وبقي الرفض الفلسطيني الرسمي قائما بمحوره الاعلامي ولم يتحول سياسيات عملية على صعيدي العلاقة مع كل من الاحتلال وإدارة ترامب.
ومع أنه أخيرا اتخذت القيادة الرسمية الفلسطينية قرارا بقطع العلاقة مع الاحتلال ، إلا أن هذا القرار مازال في عهدة لجنة لم يتحدد لها سقف زمني لإنهاء البت في آليات تطبيقه. وقبل ذلك لم تشعر إدارة ترامب بأن شيئا ما تغير على الأرض، والأمر كذلك تقريبا بالنسبة للاحتلال الذي مازال يقوم بكل الاعتداءات على الفلسطينيين وأملاكهم دون أن يلقى الرد المناسب، في الوقت الذي أكدت قرارات المؤسسات الوطنية (المجلسين المركزي والوطني) على ضرورة النهوض بالمقاومة الشعبية وحمايتها وإسنادها إلى جانب مجموعة من القرارات التي من شأنها أن تصوب السياسة الرسمية الفلسطينية في السياسة .. والميدان.
بقلم/ محمد السهلي