من المتوقع ألّا يكفّ بنيامين نتنياهو عن محاولاته لتوسيع دوائر الدعم لحزبه، ولا عن إصراره على تذليل جميع العقبات التي يرى أن من شأنها أن تفشل فوز معسكره في الانتخابات المقبلة.
لم تبدأ مسيرة الجنوح اليميني العنصري في إسرائيل ووصولها إلى حالة الاختمار الفيروسي الخطير، مع بداية طريق نتنياهو السياسية؛ لكنه بدون شك أحد أهم وأبرز السياسيين الصهاينة، الذين سعوا بإمعان إلى ترسيخ دولة تتماهى حدودها مع ما وعدت به السماء أنبياء بني إسرائيل، وتتحرّك في فضاءاتها، بشهوة وشوق، أرواح ابنائها اليهود الأمينين. كانت دوافع نتنياهو في المعارك الانتخابية السابقة قومية نهمة وعنصرية حتى حدود الدم؛ وكانت تستهدف إحكام سيطرة اليمين الفاشي المنفلت، على جميع مفاصل النظام، ونقلها من كيان يدّعي أنه ديمقراطي ويهودي إلى دولة تفاخر بكونها يهودية نقية، لا يتستر قادتها وراء أي حجاب من الدبلوماسية الزائفة، ولا تتلوّى مؤسساتها على وقع نايات “مجتمع دولي” افتراضي، أضاع بقايا ضميره في صحارى العهر البعيدة.
ومن المؤكد أن مطامعه، في الانتخابات المقبلة، لن تتغير. فنصر أحزاب اليمين العنصري هو غايته؛ وإشباع نرجسيته وأناه المنفوختين سيبقى، كما كان، بمثابة تحصيل الحاصل وإنجازه الشخصي المبهر؛ لكنه، مع ذلك، يعرف كما نعرف نحن أيضا، بأن تداعيات المعركة المقبلة، بخلاف سابقاتها، ستحسم مصيره الشخصي بالمعنى الدقيق، وليس مصير مستقبله السياسي فحسب؛ فمسألة فوز حزبه وحلفائه في الانتخابات وتكليفهم له، بعد انتهائها في الثامن عشر من سبتمبر الجاري، بمهمة تركيب الحكومة الجديدة ونجاحه في ذلك، سينقذه من مواجهة الاتهامات الجنائية الخطيرة التي إذا ما أدين بها سيسجن وسينهي مسيرته السياسية كمجرم وراء القضبان.
لن يتورّع نتنياهو من القيام بكل ما يخطر على بالنا، وما يغيب عنه؛ فما زلنا نشهد ما يفعله في الأيام الأخيرة، وما يعد به وكيف يسعى لاستقطاب القادة اليمينيين وضمان أصوات أتباعهم؛ وكيف يعلن يوميًا، بدون خجل أو وجل، عما سيدفعه لهم من عوائد مادية أو سياسية، آملًا، بسبب ذلك، أن يضمن تربّعه، مرّة أخرى، على كرسي رئاسة الحكومة، وإلّا فبديل ذلك، كما قلنا، سيكون جلوسه، بصحبة الحسرة، على “برش” معدّ لكبار الرؤساء المدانين بالجرائم، حيث لن يجد سيجارا ولا شمبانيا، بل نوبات من التنهد وموجات من الوجع.
كان لا بد من هذه المقدمة لتوضيح حجم الخطر الذي سنواجهه، نحن المواطنين العرب، في حالة نجاح معسكر نتنياهو واستئثاره بمقابض السلطة؛ فهو وجميع من معه يعلنون، بلا تأتأة وبشكل لا يقبل التأويل، أن مرحلة تدجيننا، كغرباء عرب في ديارهم، قد انتهت، وعلينا بعد تشريع قانون القومية وأشقائه، أن نقبل باليهود أسيادًا لنا، وأن نحتفي نحن، من أجل مصلحتنا، بدور ومكانة العبيد. قد يظنّ البعض أنني أبالغ عندما أكتب عن فظائع النظام المقبلة، أو أنني أشجّع على تهليع وتيئيس الناس؛ لكنني أهيب بمن يجيدون فهم المقروء، أن يراجعوا مجددًا جميع تلك القوانين التي شرّعتها الكنيست في السنوات الأخيرة، راجيًا ممن شعروا وتحققوا من خطورتها، عدم المراهنة على اعتبارها مجرد نزوات من حبر، ستنسى في خزائن الرحمة الاسرائيلية أو داخل ثنايا التاريخ؛ وأدعو، في الوقت نفسه، جميع من أصيبوا بداء التعب واستقراف السياسة، أو لعنة الكسل والخيبة، أو عارض فتور المشاعر والأحاسيس، أن يعدلوا عن قرارهم بمقاطعة الانتخابات. يجب الإصغاء جيّدًا لشراسة مواقف زعماء اليمين وأفعال رسلهم، الحاليين منهم في الحكومة أو القادمين؛ فمن يسمع عظات أبائهم الروحيين، وفتاوى كهنتهم المتزمتين، سيتيقن أننا، كمواطنين عرب، لا نملك هوامش للتمنّي الواهم، وليست لدينا فرص للمقامرات وللمزايدات والعبث؛ فنتنياهو جريح نازف وهو بحاجة حرجة، كي يضمن بقاءه في مقام المواطن الأول، لجميع أولئك الراقصين على الهضاب الساخنة، أو يتدافعون في حملات صيد العرب، كما نراها في شوارع القدس، أو في ساحات العفولة وفي صفد. سيسمح لهم نتنياهو وحزبه أن يشفوا غليلهم على حساب شراييننا نحن المواطنين العرب، لأنه، إن لم يكن مثلهم، فهو يعرف انه بدونهم وبدون بطشهم، سيصير غبارًا على سفوح الماضي وشظايا ذكرى وطيف ذليل.
ماذا فعل لنا أعضاء الكنيست العرب؟
يتذرع بعض مقاطعي الانتخابات بعدم أهمية التمثيل النيابي العربي في الكنيست، فيتخذون، في ظل هذه المغالطة موقفًا عدميًا يبقيهم يوم الانتخابات في البيوت، أو يخرجهم للاستجمام في أحد الشطآن، أو لرحلة شواء، مستغلين يوم العطلة، بصحبة اليأس والنرجيلة. لن أعدّد كل الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه المقولة وتحوّلها إلى أحد أهم العوامل في تبني قطاعات واسعة من المواطنين العرب لموقف مقاطعة الانتخابات، بعد أن مارسوها لدورات عديدة. عملت أجهزة الدولة الموكلة على نشر هذه الفرية بذكاء لافت، ونجحت بترسيخها في جيوب سكانية عديدة، فتبنتها قطاعات واسعة حتى ضاعت “طاسة” الحقيقة بين داع للمقاطعة عن عمالة وعن إغراض، وبين مضلَّل أو مؤمن بها عن جهالة أو عن يأس أو عن “مجاكرة” أو عن احتجاج؛ وعلى جميع الأحوال فقد ربحت ماكنة الدعاية الصهيونية، من جراء ذلك، معركة مهمة؛ وسجلنا، نحن المواطنين العرب، بالمقابل، هزيمة جديدة في سجل هزائمنا الطويل. ساهمت قيادات الأحزاب والحركات السياسية والدينية في رواج ذلك الشعار؛ ففي حين كانت ماكنات الإعلام الحكومية الاسرائيلية وأبواقها المحلية تراكم تأثيرها شعبيًا، كانت القيادات العربية غارقة في صراعاتها الداخلية أو تلهث، مستنزَفة، في سباقاتها على مسارات الولاءات الملتبسة، في مشهد ساعد على إبعاد الناس عن تلك الحلبات المزعجة.
لقد عاشت مجتمعاتنا حالة من العجز السياسي، ومن عقم القيادات؛ أما اليوم، وبعد إعادة تركيب القائمة المشتركة، وبسبب ظواهر اخرى، كلي أمل أننا في طريقنا للخروج من ذلك المأزق القاتل. لن أكتب هنا في أسباب ذلك الترهل والضعف، لأن مقصدي، ونحن أمام مرحلة مفصلية، هو إقناع هذا الفريق من المقاطعين بضرورة مشاركتهم في التصويت المقبل، لأنني أرى بوجود النواب العرب في الكنيست ومعهم من يدعم قضايانا الأساسية، وحقوق الشعب الفلسطيني، ضرورة بديهية تمارسها ومارستها معظم الأقليات التي تناضل من أجل بقائها في وطنها، وحصولها على حقوقها المدنية؛ ويكفينا أن نرى، كبرهان على صحة ما قلت، كيف تسعى أحزاب اليمين بكل طاقاتها وخدعها، وتحاول إقصاء الأحزاب والحركات السياسية العربية عن الكنيست، وكذلك تحاول تخفيض نسبة المصوتين العرب، أو سرقة ضعاف النفوس والمنتفعين لصالحها. لقد فشلت الاحزاب العربية في السنوات السابقة بصدّ تلك الدعاية الخبيثة، بصدّ غيرها من الدعايات التي أثّرت سلبًا على روح الجماهير، وأدّت إلى عزوفها وإلى تنامي نداءات المقاطعة بشكل طردي ومقلق؛ أما اليوم فيجب، في ما تبقى من وقت، العمل المبرمج والصارم على محاورة أوسع القطاعات المتكاسلة، وإقناعها بأن اهمية مشاركتها لا تتوقف فقط على أهمية وجود أكبر عدد من النواب العرب وحلفائهم الحقيقيين، بل لأنها أيضًا تعدّ فعلًا ضروريًا من واجب الإنسان الحرّ والواعي ممارسته؛ وهي كذلك تعتبر استجابة لحاجة وجودية يمليها العقل، من أجل تحقيق ذات كل فرد فاعل في تحديد صورة وشكل المجتمع الذي سيعيش فيه.
أدعو إذن الناس للتصويت واحترم، في الوقت نفسه، حق من ينادي بالمقاطعة لأسباب مبدئية أو عقائدية. احترم حقهم لكنني لا أوافقهم على نتيجته، لأنني أشعر بأن مقاطعتهم تسهل على قوى اليمين الفاشية تنفيذ مآربها وموبقاتها. حول هذه المسألة وحول موقف من يدّعي بأن كل اليهود صهاينة، وبأنّ كل الصهاينة سواسية سوف أكتب لاحقًا، فهل حقًا علينا أن نتعامل مع سموطريتش وأشكاله مثل تعاملنا مع نيتسان هوروفتس، رئيس حزب ميرتس، ورفاقه؟
جواد بولس
*كاتب فلسطيني