لم يمكث اتفاق أوسلو طويلا في «سلة الإنجازات» التي حاول مهندسوه تسويقها بُعيد توقيعه. وسرعان ما تبدد ضباب الالتباس الذي رافق الوعود التي أغدقوها بالرفاه والرخاء الذي ينتظر الفلسطينيين، بعدما بات الحديث عن حقوقهم وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة جزءا من أدبيات السياسة الدولية، وعلى لسان حلفاء عدوهم تحديدا، وهو ما اعتد به أصحاب هذا «الإنجاز».
بعد سنوات قليلة، أدرك المفاوض الفلسطيني، ومرجعيته السياسية، أنه دخل سلسلة متصلة من الأنفاق الملغومة. وبدلا من قلب الطاولة والخروج من حيث دخل، تمسك بوعود الراعي الأميركي للاتفاق، ضمن قناعة خاصة تقول إن تأييد واشنطن ومعها أطراف أساسية في المجتمع الدولي للاتفاق سينعكس بالضرورة سياسات ضاغطة تنزل الاحتلال أمام تنفيذ التزاماته مع نهاية المرحلة الانتقالية.
وخلال العقدين اللذين أعقبا «قمة كامب ديفيد 2» بقي المفاوض الفلسطيني متمسكا بقناعته الخاصة، فيما كانت حكومات تل أبيب منهمكة في تنفيذ سياساتها التوسعية، حتى بدأ هدف قيام الدولة الفلسطينية المستقلة يتوارى خلف شبكة الاستيطان وعلى وقع حملات التهويد والتطهير العرقي. وتلاشت عناوين القضايا الكبيرة التي بدأت بها المفاوضات بين الجانبين مع توقيع الاتفاقات الأمنية والاقتصادية خلال العامين الأولين للتفاوض. ومنذ ذلك الوقت، أوقفت إسرائيل نبضات تسليم مناطق في الضفة إلى ولاية السلطة بعدما تخلصت من عبء السكان الفلسطينيين ونقلته إلى السلطة على نفقة الدول المانحة. وحرصت تل أبيب خلال هذه العملية على الاحتفاظ بالمساحة الأوسع من الأرض تحت ولايتها الأمنية والإدارية وحكمت عملية التسليم معادلة «أرض أقل .. سكان أكثر». ومنذ ذلك الوقت أيضا، رأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن اتفاق أوسلو أدى وظيفته الإسرائيلية. ولهذا السبب، نعى أرئيل شارون الاتفاق فور وصوله إلى مقعد رئاسة الوزراء في العام 2001 وطالب بدفنه.
وعندما نعت تل أبيب اتفاق أوسلو أوضحت بالقول والممارسة أن التنسيق الأمني وبروتوكول باريس خارج بطاقة النعي، وإلى جانب ذلك السقف الذي وضعه الاتفاق لتحرك السلطة الفلسطينية السياسي والديبلوماسي، وهذا هو سبب الهياج الإسرائيلي والأميركي في وجه المسعى الفلسطيني إلى الأمم المتحدة في العام 2012، والضغوط السياسية والمالية التي مورست ضد الجانب الفلسطيني لإرغامه على التراجع عن مقصده. ومع ذلك، فشلت هذه الضغوط وفاز الفلسطينيون بترقية وضع فلسطين في المنتدى الدولي والاعتراف بها دولة تحت الاحتلال على حدود الرابع من حزيران/يونيو وعاصمتها القدس الشرقية.
أي أن قيمة الاتفاق بالنسبة لإسرائيل هي بالقيود المفروضة على الفلسطينيين سياسيا وأمنيا واقتصاديا، في حين شطبت كل ماله علاقة بقضايا «الحل الدائم» ورفضت البحث فيها خلال المفاوضات التي عقدت منذ العام 2010، بعدما راوغت حول ذلك في المفاوضات التي عقدت العام 2008 والتي انبثقت عن مؤتمر «أنابوليس» خريف العام 2007.
المشكلة أن البعض يتعامل مع هذا الاستخلاص الصحيح من زاوية إيجاد تسويغ لسياساته الخاطئة في التمسك بالاتفاق، ويقول إن العودة إلى المفاوضات سيضع إسرائيل أمام التزام البحث في قضايا استطاعت التهرب منها طويلا، وهذا بحد ذاته مكسب للفلسطينيين! وقد فهم من مراوغتهم هذه أن الاتفاق الذي قضوا سنوات طويله في متاهة البحث عن حلول وفق بوصلته على طاولة التفاوض،لايزال لديهم الكثير من الحوافز لأن يواصلو بحثهم ولو .. من تحت الطاولة.
مايتجاهله هؤلاء هو أن المفاوض الإسرائيلي رفض بحث هذه القضايا حتى في ظل التأكيد عليها من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة على عملية التسوية. وعندما خاض بها في السابق، حاول فرض الحلول التي تستجيب لسياساته التوسعية بخصوص القدس والحدود والاستيطان والمياه بعدما شطب قضية اللاجئين وبتطابق وتواطؤ مع الراعي الأميركي، وكان هذا واضحا حتى للقيادة الرسمية الفلسطينية في قمة «كامب ديفيد 2» صيف العام 2000.
تعاملت إسرائيل «أوسلو» على أنه قسمان، واحد جوهري ودائم تبدى بالشروط السياسية والأمنية والاقتصادية، والثاني مؤقت وظيفته التورية على تحقيق الشروط الإسرائيلية التي تجسدت عبر الاتفاقات التي وقعت مع الجانب الفلسطيني المفاوض. لذلك، ومع أننا بالأساس نرفض الاتفاق منذ توقيعه، يصح القول إن الرد على هذه «الخديعة» الإسرائيلية كان من المفترض أن يبدأ بإلغاء الاتفاقات التي حققت للاحتلال شروطه، ومن ثم الانطلاق في العمل السياسي والديبلوماسي خارج السقف الذي رسمه الاتفاق.
مع مجيء إدارة ترامب، واتخاذها مجموعة من القرارات والإجراءات المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني،اتحد الموقف الفلسطيني على رفض صفقة ترامب وخطواتها وما تفرع عنها من مؤتمرات ولقاءات.وعلى وقع مجازر هدم البيوت وتوسيع الاستيطان وعمليات الاقتحام والاعتقال وحالة الاحتقان الشعبي المتفاقم نتيجة جرائم الاحتلال، توصلت القيادة الرسمية الفلسطينية إلى قرار وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل،وهي خطوة مهمة ولو أنها متأخرة، ربطا بقرارات المجلس المركزي منذ العام 2015، إلا أن تنفيذ هذا القرار بات رهنا بانتهاء عمل اللجنة التي كلفت بالبت في آليات وحيثيات تنفيذ القرار. وفهم كثيرون من عدم وضع سقف زمني لعمل اللجنة بأنه نوع من التسويف في التنفيذ، وبأن ذلك يعنى استمرار في إطلاق المواقف المتقدمة ولكن مع وقف تنفيذها على الأرض.من هذه الزاوية، يتوجس كثيرون من استمرار الرهان على المفاوضات وفق أوسلو وفق كثير من التصريحات التي أطلقتها القيادة الرسمية الفلسطينية في خطابها مع أطراف دولية، وهذا يكرس قناعة لدى هذه الأطراف بأن الجانب الفلسطيني متمسك بالاتفاق، وبالتالي فإن سقف مواقفها سيكون العودة إلى دوامة التفاوض العبثي من جديد، في الوقت الذي تمضي صفقة ترامب في خطواتها على الأرض مستهدفة تصفية حقوق الشعب الفلسطيني.
أكثر من ربع قرن مضى على توقيع اتفاق أوسلو الذي شكل انقلابا على البرنامج الوطني وبدلا من أن يشق طريقا نحو إنجاز الحقوق الفلسطينية كما روج مهندسوه، حفر نفقا تعرضت فيه هذه الحقوق وماتزال لخطر التبديد والتصفية.
وإذا كان مفهوما أن تتمسك دولة الاحتلال بمكاسبها الأمنية والاقتصادية في اتفاق أوسلو وتجهد في الحفاظ عليها ، فمن غير المفهوم ألا يتم القطع مع هذا الاتفاق وقيوده منذ سنوات طويلة، لأن االشعب الفلسطيني لم لم يحصد من ورائه سوى الكوارث.
بقلم/ محمد السهلي