هذا هو الفساد .. فأين هو القضاء؟

بقلم: معتصم حمادة

 (1)

 ■بعد أن توصلت السلطة الفلسطينية، مع وزير المال الإسرائيلي، موشيه كحلون، إلى اتفاق باسترداد جزء من أموال المقاصة، دون أن يفسر ذلك تراجعاً عن قرارها، برفض استلامها منقوصة، هللت حكومة اشتيه، وقدمت وعوداً سخية إلى الموظفين، تبشرهم بأنها ستدفع لهم هذا الشهر ما قيمته 110% من الراتب، ما بين جديد وقديم.

وبنى الموظفون على هذه الوعود آمالاً. كما بنتها المصارف، وأصحاب الديون المتوجب على الموظفين تسديدها لهم.

غير أن الوقائع جاءت مغايرة، وتبين عدم صدق وعود الحكومة، خاصة في قطاع غزة. ولعل أبرز دليل على ذلك، هو رد فعل قيادة حركة فتح في القطاع، وعلى رأسها عضو اللجنة المركزية للحركة أحمد حلس (أبو ماهر)، الذي «طفح الكيل» عنده، من جراء مناورات السلطة، خاصة وأنه هو من يمثل السلطة، في القطاع، وهو من يتلقى ردود فعل الموظفين، الذين خابت آمالهم، ولم يتلمسوا أي تحسن في أوضاعهم المالية، خاصة في ظل إصرار المصارف، على استرداد قروضها من الموظفين، بالوتيرة التي تمنع وقوع الضرر في النظام المصرفي، الذي أودع معظم أمواله قروضاً لدى الموظفين، وارتبكت أعماله، وتهدد مستقبله، بارتباك الوضع المالي للسلطة، بعد أن توقفت عن استلام أموال المقاصة من سلطة الاحتلال، وبعد أن قررت إدارة ترامب حرمانها من المساعدة السنوية التي تساوي، بين النقدي والعيني، حوالي نصف مليار دولار (500 مليون دولار)

(2)

من الطبيعي أن تتحول قضية الرواتب، والحسومات، ونسبة الدفع وغيرها، إلى واحدة من القضايا الكبرى، التي تحتل موقعاً متقدماً في وسائل الإعلام واهتمامات المراقبين والموظفين، وأن تتحول إلى قضية الساعة، وإلى مصدر آخر من مصادر النقمة على السلطة، ليس لأنها قررت رفض استلام أموال المقاصة منقوصة، وليس لأن الموظفين يرفضون أن يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية في مجابهة قوات الاحتلال وسلطاته، بل لإحساس الموظفين، وعموم المواطنين، أن عبء المواجهة يقع على فئة معينة من الناس، هي الفئات الدنيا، وأصحاب الدخل المحدود والمتوسط، فيما الآخرون، من كبار الموظفين، ينعمون بالمال الوفير، بعضه يدخل في باب الاستحقاقات القانونية، والبعض الآخر، يعتبر دخلاً من غير وجه حق.

وهو ما شكل مناخاً للحديث مطولاً عن الفساد، وأجوائه، ورواياته المنتشرة في صفوف السلطة. بعض هذه الروايات قابل للتصديق وبعضها الآخر لفجاجته، قد يبدو غير قابل للتصديق، لكنه جزء من الواقع، الذي تعيشه السلطة.

في هذا السياق تندرج مسألة الوزراء وكبار الموظفين الذين حصلوا على امتيازات مالية، غير قانونية، ومخالفة للنظام والقوانين المالية لوزارة المال، والوظيفة العمومية. وما جاء في قرار رئيس السلطة، بإلزام هؤلاء إعادة ما كسبوه بغير وجه حق، في إطار حالة الفساد السائد، دليل قاطع لا يستطيع أحد أن ينكره.

فالوزير، على سبيل المثال، يقدم لوزارة المال معلومات مغلوطة عن أوضاعه، أملاً في كسب المزيد من المال، من هذه الأساليب، أنه يدعي أنه يسكن بيتاً بالإيجار، في وقت يكون فيه البيت ملكاً له. أو أن يعمد إلى تأجير بيته المملوك، وأن يستأجر منزلاً على حساب السلطة. وأن يتلاعب بفواتير الهاتف والماء والكهرباء والضمان الصحي، بحثاً عن دخل إضافي.

من أكثر الأمثلة سطوعاً أن وزير المال نفسه، كان قد تورط في هذه اللعبة التي اسمها فساد، وقد أعاد إلى الخزينة مبلغاً وقدره 81,600 ألف دولار (واحد وثمانون ألفاً وستمائة دولار أميركي) كان قد «غنمها» إلى جانب راتبه، في مخالفة سافرة للقوانين.

وإذا كان وزير المال، كحالة منفردة، قد أعاد هذا المبلغ، فما هي المبالغ المتوجب على باقي الوزراء أن يسددها، على غرار ما فعل وزير المال؟ ولماذا لم يسدد هؤلاء الوزراء ما ثبت أن عليهم أن يعيدوا إلى الخزينة، بعض ما كسبوه بغير وجه حق؟ ولماذا يجري التعتيم على هذه القضية، ولا تثيرها الصحافة المحسوبة على السلطة والتي تحاول أن تقدم نفسها حريصة على مصالح الناس وحقوقهم؟ والأهم من هذا، أين هو القضاء في السلطة ولماذا لم يتدخل، في مواجهة اللصوصية التي تمارسها فئات السلطة، في طوابقها العليا؟ أم أن القضاء، استحدث ليكون عصا بيد السلطة في مواجهة خصومها السياسيين، ولإرهاب الناس وترهيبهم وليس للدفاع عن مصالحهم؟ وأن القضاء قد استحدث لتقديم الفتاوي «القانونية» التي تخدم أهداف السياسات الفئوية الضيقة للسلطة الفلسطينية، كالفتوى «الفضيحة» بحل المجلس التشريعي، خلافاً للقانون الأساسي للسلطة الفلسطينية؟ .

(3)

من مظاهر وآليات الفساد الرسمي، في الطوابق العليا، وحيث يمارس بوعي وعن سابق تقصد، أن يلجأ الوزير، أو المستشار، أو المدير العام، أو من في حكمهم، إلى أعلى مركز في السلطة، يطلب زيادة رواتبه المالية (!) بشكل مميز عن زملائه. الأكثر فجاعة أن تستجيب الجهات المعنية لهذا الطلب بإصدار قرارات استثنائية، ملزمة لوزارة المال، بزيادة الراتب، تتجاوز أنظمة وزارة المال، ورأي الوزير المختص، وحتى رئيس الوزراء نفسه.

لا داعي للإطالة في الحديث عن طبيعة النظام السياسي الفئوي والعشائري والزبائني، الذي تحدث فيه هذه الوقائع، ولا عن سياسة شراء الذمم، وتكريس الفردية، على حساب المؤسسة، وعن درجة الاستهتار بالرأي العام، وبالنظام المالي للسلطة، ومدى تأثير ذلك على موازناتها السنوية (هذا إن كانت بحوزتها موازنة معتمدة خارج إطار التدخل الفردي في الصرف والحسم، وصرف المكافآت، وفرض الغرامات، وإبعاد المعارضين، وتقريب الموالين).

وحتى لا يبدو الكلام هنا مبالغة، فنحن نشير إلى حوادث وقعت فعلاً، نملك عنها في مجلة «الحرية» تفاصيل دقيقة، بما فيها أسماء الوزراء الذين صدرت لهم قرارات استثنائية بزيادة رواتبهم بعد ما قدموا طلبات بذلك إلى مكتب الرئاسة. ولأننا لسنا في معرض تصفية الحسابات مع أفراد، ولأننا فقط في إطار كشف الأخطاء، لصالح سياسة الإصلاح، نمتنع عن ذكر اسماء الوزراء المعنيين، دون أن يمنعنا ذلك من الكشف عنهم إذا ما أنكرت السلطة وماليتها هذه الوقائع .

(4)

كان من الطبيعي أن تثير كل هذه الأخبار، المكشوف منها، أو التي تم تسريبه من خلف الجدران، ضجة في الأوساط العامة، ما حدا برئيس الحكومة السابق رامي الحمدالله أن يصدر بياناً، يحاول فيه أن يضع النقاط على الحروف، وليسلط الضوء، من موقعه المسؤول على نواحي الفساد، في إطار الاعتراف الضمني بوجود هذا الفساد.

فقد نشر الحمدالله في 20/8/2019، على حسابه على الفيسبوك، أكد أنه طالب وزير المال الكشف عن «حقيقة الموضوع» وإطلاع الرأي العام على التفاصيل ولكنه لم يفعل.

وجدد الحمدالله مطالبته «وتعزيزاً للشفافية بالكشف عن حقيقة الموضوع (..)» وعن أسماء المستفيدين «من هم بدرجة وزير أو رؤساء الهيئات والسلطات أو شخصيات أخرى في مواقع متعددة في الدولة».

ومما قاله الحمدالله في تأكيده الضمني أن ثمة تلاعباً في قضايا أجور المنازل وفواتير الكهرباء والماء،  «أنتظر من وزير المالية أن يتحدث بخصوص بدل الإيجار  لبيوت وزراء الحكومة السابعة عشرة والثامنة عشرة» من هم بدرجة وزير ورؤساء الهيئات والسلطات وشخصيات أخرى علماً أنني طوال خدمتي كرئيس للوزراء لم أتقاض أي بدل إيجار أو تغطية لأية فواتير كهرباء أو مياه أو هاتف منزل، كما هو متبع ومعمول به للوزراء ومن في حكمهم. وطوال الوقت كنت ضد هذا الموضوع، بل وكتبت لفخامة الرئيس حوله، والذي أحال الموضوع لمستشاره القانوني.

الملاحظ هنا، أن المستشار القانوني، بقي عند حدود دوره الاستشاري الذي لا يدري أحد عنه شيئاً، وأن الحمدالله هو الذي كاشف للرأي العام بما حصل، بينما تكتم حول الأمر، وزير المال الذي مازال يحتل موقعه على رأس خزينة السلطة .

 (5)

مثل هذه السلوكيات المالية تطرح في السياق العديد من الأسئلة:

1) ما هي حدود صلاحيات رئيس السلطة، وصلاحيات رئيس الحكومة، ومن هو المعني بضبط هذه الصلاحيات وعدم تجاوزها، من هنا أو هناك؟

2) ما هي صلاحيات رئيس الوزراء، وحدود سلطته على وزرائه، وما هي المساحة المسموح بها للوزير أن يتجاوز رئيسه المباشر، للاتصال برئيس السلطة، وما هي القضايا موضع الاتصال، ومن هو ضابط هذه الآلية، وما هي عناصر الضبط ومنع التجاوز عنه، أياً كان مصدرها؟

3) ما هي صلاحيات وزير المال، بشكل خاص، ومجلس الوزراء بشكل عام، في بناء الموازنة السنوية، وتوزيعها على الوزارات، كل حسب اختصاصه، وإلى أي حد يسمح للوزير أن يكافئ «نفسه» بزيادة مرتبه وحوافزه وضماناته وخدماته المالية وأين هو القضاء، وأين هي هيئة مكافحة الفساد، وكيف تمارس دورها، ولماذا لم نسمع عن هاتين الهيئتين أنهما تحركتا في ضبط كل هذه التجاوزات؟

4) من أين للسلطة المال الضروري لزيادة رواتب وزرائها ومدراءها العامين، وهي تشكو من شح المال، خاصة بعد وقف المساعدات الأميركية والتوقف عن استلام أموال المقاصة. وكيف تفسر السلطة لموظفيها العموميين حسوماتها الشهرية، لافتقارها إلى المال اللازم، وهي تقوم في الوقت نفسه بزيادة «مكافآت» الوزراء وكبار الموظفين، و«حوافزهم» المالية البالغة مئات آلاف الدولارات.

5) ما هي لائحة رواتب موظفي السلطة، بدءاً من راتب رئيس السلطة وصولاً إلى الأدنى فالأدنى، وأية حركة تحرر وطني هذه التي تصل بعض رواتب موظفيها في الدرجة الأولى، وبعض «خبرائها» إلى ما يتجاوز العشرة آلاف دولار. أي ما يتجاوز رواتب الموظفين المماثلين لدى دول عربية مجاورة، مستقلة ذات اقتصاد مستقل وقائم بذاته، وذات موارد صناعية وزراعية، وسياحية وغيرها.

6) أليس من حق المواطن أن يطلع على مالية سلطته عبر تقديم تقاريرها السنوية، خاصة وأن مالية السلطة، تقوم أساساً على الضرائب على المواطن (أموال المقاصة)، وعلى المنح التي تقدم لها باسم الشعب الفلسطيني، وعلى القروض، التي سوف يسددها المواطن من ماله الخاص عبر الضرائب التي ستفرض عليه.

ومادام هذا المال، هو مال المواطن، فلماذا لا يحق للمواطن أن يراقب كيفية التصرف بأمواله، فإين هي الشفافية، وأين هي المصداقية؟■

بقلم/ معتصم حمادة