عودة وتجديد الروح الوطنية والكفاحية للشباب الفلسطيني ومقارعته للمحتل الإسرائيلي الغاصب، كانت ولا تزال تقابلها,حالة التردي والانغلاق في بنية النظام السياسي الفلسطيني الرسمي وديناميكية البنية التنظيمية والبرنامجية للفصائل الفلسطينية على كافة مشاربها الأيديولوجية والسياسية.
ان مقدار التحولات الداخلية السلبية التي حدثت في بنية السلطة الوطنية الفلسطينية يشير إلى ذلك, فالصراع على المناصب جعل السلطة مغيبة للكفاءات الوطنية والشبابية خصوصا, تقويض أسس العمل الجماعي التوافقي والوطني, ضعف الأداء السياسي والمجتمعي, وفشل كل برامج التنمية, الاجتماعية والاقتصادية منها, خيب آمال الفلسطينيين وافقدهم الثقة بقيادتهم الرسمية والفصائلية, حيث ان التدمير الذاتي للمشروع الوطني الفلسطيني وصل ذروته, من خلال استبدال مركزية الصراع مع الاحتلال ومشاريعه التهويدية الى الصراع مع الذات الفلسطينية على" كعكة السلطة" تحت الاحتلال.
ان حالة الانقسام " السلطوية"وضعف بنية الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية وانحسار فعاليتها الجماهيرية، و" تسييس" مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية و السلطة الفلسطينية القائمة، والغموض في المواقف السياسية الانتظارية والتسويفية الاستعراضية، أدى ذلك، الى الاغتراب السياسي والاجتماعي للجمهور الفلسطيني عن قضيته وحالته الوطنية, في ظل غياب الرؤية الوطنية الجامعة, وأدوات استنهاضه.
ان آليات التغيير وادواتها وقواها في المجتمعات متغيرة ومختلفة تبعا لظروفها الموضوعية والذاتية, لهذا, لا يمكن التعاطي معها وتعميمها كجملة واحدة, "وصفة سحرية جاهزة"ففي الحالة الفلسطينية,هناك ضرورة لقراءة الواقع والذات قراءة عميقة لاستنباطها وتفعيلها, حيث يتداخل فيها الوطني والحياتي الخدماتي والتوزع الديمغرافي والجغرافي للفلسطينيين, في ظل تجمعات فلسطينية مختلفة الظروف والاحتياجات, ويجمعها فقط, الهم الوطني العام, الى جانب, تداخل التأثيرات الإقليمية والدولية على الواقع الفلسطيني.
اضف الى ذلك, المحدد لمصدر الشرعيات الوطنية والاجتماعية الفلسطينية, تاريخيا, شكل البعد الكفاحي والنضالي التحرري اهم مصادر الشرعية الفلسطينية, مع الاخذ بعين الاعتبار مؤخرا, ارتفاع وتيرة تأثير البعد الحياتي والمعيشي الاقتصادي للتجمعات الفلسطينية على حساب البعد والهم الوطني العام, وهذا ما جعل التجمعات الفلسطينية تتطلع الى ما يؤثر في مسار ظروفها المعيشية, مما اضعف الى حد كبير, من تأثير النخب القيادية الوطنية والتي استمدت شرعيتها من البعد النضالي, لصالح شرعيات محلية اخرى تؤثر في البعد المعيشي والحياتي والاقتصادي للناس.
في ظل هذا الوضع, تآكلت الى حد كبير شرعيات الفصائل الفلسطينية القائمة على البعد النضالي , وبدا ذلك واضحا وجليا, في انحسار الهالة القدسية لقوى اليسار الفلسطيني ومفاعيلها داخل المجتمع الفلسطيني ,اما بالنسبة لطرفي السلطة الفلسطينية الجغرافية (فتح وحماس) الوضع مختلف كليا,(فتح) هي تنظيم السلطة الحاكمة او سلطة التنظيم الحاكم, الذي ارتبط به جمهور واسع من الشعب الفلسطيني مصلحيا ومعيشيا وامنيا, من خلال الوظائف السلطوية والخدمات وتهديد الحريات وما الى ذلك,على غرار ما تمثله السلطة الحمساوية في قطاع غزة, لذلك, فان شرعية هذين الفصيلين (فتح وحماس) "كسلطة وطنية" لم تعد تستمد من الشرعية النضالية او البعد الوطني, وانما شرعيات مصلحة ونظم أمنية واستخدام مسوغات وشعارات وطنية استعراضية.
اليات التغيير:
ما من شك بان الرؤية الوطنية الجامعة والبعد الكفاحي ,لا يزال وسيبقى ما بقيت قضية التحرر الوطني, وكمعطى اساسي لأي عملية تغيير في الحالة الفلسطينية, ولا يمكن لأي قوة سياسية او اجتماعية ان تتجاوز هذا المعطى, وان تحقق تقدما في التغيير والشرعية في الحالة الفلسطينية، اذا اسقطت من اجندتها و رؤيتها السياسية شعار: وحدة الحقوق الفلسطينية كترجمة عملية و وطنية واخلاقية على وحدة القضية الوطنية الفلسطينية جملة وتفصيلا, وهذا المعطى, أي البعد الوطني, قد يكون اهم عامل محبط للتغيير في ذات الوقت؟!!، لان بعض القوى الفلسطينية السائدة قد تتمسك بهذا المعطى فقط استعراضيا واعلاميا, لترمي قوى التغيير المفترضة (فلسطينيا) بتهم تمس تمسكهم بالبعد الوطني الجامع ، والذي لا يتوافق – برأيهم – مع "واقع المتغيرات الإقليمية والدولية", بهدف الإبقاء على قيادتها وشرعيتها وسلطتها للحالة الفلسطينية.
بالمحصلة نقول: رؤيا وطنية جامعة تتجاوز خصوصية الجغرافيا الفلسطينية برنامجيا واليات عمل خاصة,و توحدها على اختلاف خصوصيتها وطنيا,من خلال وحدة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ,تكريسا وتجسيدا لوحدة القضية الوطنية الفلسطينية, وبدون ذلك, فان الشعب الفلسطيني لن يستجيب لاستراتيجيات التغيير المطروحة, والتي تتجاوز حجر الأساس لكل تغيير شرعي فلسطيني قادم (وحدة القضية من خلال وحدة حقوقها).
في الحالة الفلسطينية تاريخيا,جاء الواقع الموضوعي (بالشرارة):
- نكبة عام ١٩٤٨ شكلت الشرارة فاشتغلت ماكينة التغييرالتي أطاحت بالأحزاب والقوى القديمة التقليدية لتحل محلها قوى وطنية جديدة، وكذلك الامر,حصل بعد حرب حزيران عام ١٩٦٧وفي الوقت الراهن, أوسلو واستحقاقاته المدمرة على الشعب الفلسطيني و قضيته الوطنية, هي الشرارة التي ستحدث التغيير داخل الحالة الفلسطينية ومشروعها الوطني.
ان الشعب الفلسطيني لم تعد تنطلي عليه الأفكار والبرامج الشعبوية، كذلك القوالب الأيدلوجية، فقد سادت منظومة قيم قائمة على المكاسب الفردية والاستئثار والهيمنة وصولا للفساد الاداري والمالي، وأصبحت هذه القيم تحكم سلوكيات الاغلبية من النخب القيادية الفلسطينية، واكثر من ذلك, ادراكالاحتلال لذلك جيدا، فاستخدم هذا الوضع ووظفه بطريقة او بأخرى للتأثير على التوجهات السياسية و"ردة الفعل" لتلك النخب في مركز القرار الفلسطيني و" مطبخه السياسي".
ان امتلاك الوعي الكافي لأحداث التغيير لا يحقق التغيير, رغم اهمية هذا الوعي، ودون ان يقترن هذا الوعي بالإرادة والاستعداد لدفع الثمن الذي يستلزمه هذا العمل ,سيبقى الوعي بالتغيير ترف فكري لا اكثر ولا اقل, وهو حال كل الفصائل الفلسطينية. "إسرائيل" هي المتضرر الاول من اي تغيير في البنية والفكر السياسي الفلسطيني، حيث وصلت الحالة الفلسطينية (سياسيا وتنظيميا) الى مستوى من الانغلاق والتأزم, بما يحقق المصالح الإسرائيلية, و ما تسارع وتيرة التهويد والاستيطان الغير مسبوقة, دون ردات فعل من الرسمية الفلسطينية, سياسية كانت ام ميدانية, اكبر دليل على ذلك, ولهذا سيكون العامل الإسرائيلي والامريكي حاضرا في كبح جماح اي تغيير مرتقب في الحالة الفلسطينية الراهنة.
ان التغيير السياسي يصبح حتمية عندما يصبح ضرورة اجتماعية اختمرت الظروف لتحقيقها، اما الأدوات فان القوى المستفيدة من التغيير حتما ستبدعها,
لذلك, لا بد لنا, نحن الفلسطينيون ,من الانتقال وبإرادة سياسية ووطنية عالية, الى مرحلة جديدة ونوعية, مرحلة ما بعد أوسلو, بعد طيه واستحقاقاته, وان نحتكم الى قوة الجمهور الفلسطيني وارادته السياسية, أولا وأخيرا, وألا نقلد ما تمارسه الانتظارية السلطوية الفلسطينية من سياسات ومواقف, شاء من شاء وابى من ابى .
نحن احوج للقيام بمراجعة نقدية وطنية شاملة لكل سياساتنا وبرامجنا وتحالفاتنا الداخلية والخارجية , والضغط على "طرفي نكبة فلسطين الثانية", من الانقساميين والانتهازيين, للعودة الى رشدهم الوطني وتغليب مصلحة القضية الوطنية وحقوقها على اجنداتهم الليبرالية والسلطوية الفئوية, ونحو تغيير جذري في وظيفة السلطة وبنيتها وادائها, واعادت الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ودمقرطة مؤسساتها, و إبراز حالتها الجديدة في تعاملها مع متطلبات وترتيبات الوضع الجديد وروافع الاستنهاض الجماهيري والمجتمعي والمدني, تمهيدا للانتقال الى دولة فلسطين تحت الاحتلال, وبما يضمن الحفاظ على مكتسباتنا السياسية والوطنية الناجزة, والتجديد في طبيعة الخطاب السياسي وادواته, والاقلاع عن "سيمفونية" التوصيفات السياسية الجاهزة والمتكررة و سياسة " اللطم والعويل" على مرارة الوضع الراهن وما الت اليه القضية والحالة الفلسطينية, وابراز الهوية الوطنية الفلسطينية في مرحلتها الراهنة كحركة تحرر وطني ووحدة قضيتها من خلال وحدة الحقوق الفلسطينية.
ان المراجعة النقدية الشاملة للحالة الفلسطينية وادواتها، هو تجديد واغناء لها, وبغض النظر, أكان هذا التغييرُ نتاجًا لمراجعةٍ فكريّة، أمْ نتاجًا لهزيمةٍ سياسية أو انهيار معنويّ, وما هو حقيقته واسبابه, الأهم :هو نتائجه, خصوصا اذا طال هذا التغيير, وحالتنا الفلسطينية بالذات, الموقف من المستعمر وسياساته, ومن ابجديات المشروع الوطني الفلسطيني واولوياته في الكفاح المشروع ضد الاحتلال و مستعمريه.
ان الحدّ الفاصل بين المراجعة النقدية الموضوعية والذاتية البناءة والضرورية لمسيرة العمل والتجربة النضالية من جهة، والاستسلام المطلق للانتكاسات السياسية والانبطاح امامها، هو: القراءة الجيدة للواقع و مفرزاته, وبالتوافق مع الإمكانات والطاقات الذاتية الحاضرة, يعني التجديد البرنامجي و بما يحافظ على الثوابت الأساسية وليس التفريط بها.
لا حلّ وسطيًّا، على المستوى الثقافيّ والنظريّ والايديولوجي، بين المبدئية زمنَ الانتكاسات، وبين الانبطاحية زمنَ الهزيمة,الثبات والاستسلام لا يلتقيان, وبالاتفاق مع رأي (لينين): فإنّ المثقفين "هم أكثرُ الناس قدرةً على الخيانة لأنّهم أكثرُهم قدرةً على تبريرها." لأنهم يهرولون نحو الامتيازات والألقاب على حساب مواقفهم المبدئيّة.
تنويه: ولأهمية التغيير والمراجعة النقدية...سنردفه بمقالات أخرى.
بقلم/ د.باسم عثمان