(1)
في 13/4/2019، أدت حكومة السلطة الفلسطينية، برئاسة د. محمد اشتيه اليمين الدستورية، معلنة تحملها مسؤولياتها عن الأوضاع العامة في مناطق السلطة. واستقبلت حكومة اشتيه، ورئيسها بشكل خاص، بترحاب شديد، وأشادت الأوساط السياسية والاقتصادية بكفاءته، وقدراته، وتوقعت أن يكون «عهده» الوزاري، أفضل من سابقيه، في رهان على خبراته الاقتصادية، وكونه قادماً إلى الحكومة من داخل المؤسسة الاقتصادية للسلطة، في وضع يعاني فيه الوضع العام من أزمة اقتصادية خانقة، سببها الحصار المالي المضروب على السلطة، وتدني إيراداتها، خاصة بعد أن امتنعت عن استلام أموال المقاصة من الجانب الإسرائيلي. وهي سلطة ذات نظام مالي ريعي، تعتمد في إيراداتها على الضرائب، والمنح والمساعدات والقروض المحلية والخارجية.
ومع ذلك يمكن القول إن الوعود السخية التي أطلقها اشتيه، متفائلاً بالمستقبل، قوبلت من رجال المال، خاصة في سلطة النقد التابعة للسلطة، بحذر شديد. وقد توصلت إلى أمرين، كان على اشتيه أن يأخذهما بالاعتبار.
الأول: أن السلطة، ما زالت تعيش في ظل احتلال إسرائيلي عدواني وخبيث، لا يقف عند حدود، ولا يحترم أية اتفاقيات، ويضع مصالح إسرائيل، فوق كل المصالح، ضارباً بعرض الحائط التزاماته بموجب الاتفاقات الموقعة مع السلطة الفلسطينية. وشعاره، منذ أن أطلقه رابين (رئيس الوزراء الأسبق) في 13/12/1993! «:لا اتفاقات مقدسة، ولا تواريخ مقدسة. ما هو ملزم لإسرائيل فقط ما هو مفيد لإسرائيل. ونحن نعمل على محاكمة الاتفاقات بمقدار ما تخدم مصالح إسرائيل. ونحن في الوقت نفسه نعمل على تعديل الاتفاقات لصالح إسرائيل، بالتطبيق العملي، دون أن نتعب أنفسنا بالذهاب إلى مفاوضات لا طائل منها».
• الثاني أنه مقبل على حكومة تعاني أزمة مالية خانقة، أدت فيما أدت إليه، إلى العجز عن تسديد رواتب الموظفين، والبالغ عددهم، حسب الأرقام الرسمية للسلطة: 132,5 ألف موظف، في ظل شح الموارد.
لكن، وكما يبدو، تجاهل اشتيه النصائح وذهب بعيداً في إطلاق الوعود، والتعهدات. صحيح أنه حاول أن ينشر أجواء تفاؤل في الفضاء الفلسطيني، لكن الصحيح أيضاً، أن التفاؤل هذا، لم يغير في واقع الأمور شيئاً، وأن العبرة بالتنفيذ وبالنتائج، خاصة وأن الفشل في الرهان، من شأنه أن يعمق حالة اليأس وأن يوسع دائرتها.
فماذا حققت حكومة اشتيه حتى الآن في الميادين الملموسة؟ وهل استطاعت أن تخترق الأجواء السياسية المحيطة بها، وأن تجتاز قيود الاتفاقات الموقعة مع سلطات الاحتلال؟ وأن تخرج السلطة ومؤسساتها من أزماتها المالية؟.
ونحن نحاول أن نجيب على هذه التساؤلات، لا يغادرنا الإدراك العميق، أن المسألة تتجاوز في محاكمتها القدرات الشخصية للأفراد، في الحكومة، وأن المسألة هي في الأساس سياسية، أي مسألة سلطة تحت الاحتلال، مقيدة باتفاقات فاسدة ■
(2)
■ الصدمة الأولى، والأكبر التي فرملت اندفاعة الحكومة، هي مدى قدرتها على توفير المال اللازم لرواتب الموظفين. والتوقف عن ذلك معناه انهيار السلطة، وانهيار اقتصادها الهش، وفقدانها القدرة على ضبط الأوضاع، وانتشار الفوضى في كل مكان، والدفع نحو فتح عشرات الملفات المغلقة.
لجأت الحكومة إلى دفع 60% من رواتب الموظفين، وفاوضت المصارف المحلية على تخفيض خصوماتها لاسترداد قروضها منهم. ما يعني أن السوق الاستهلاكية، والنظام المصرفي، أصيبا بارتباك وخلل، نتيجة ضعف السيولة المتداولة، وتراجع قدرة السلطة عن تسديد التزاماتها.
وكما أوضحت المصادر الاقتصادية، وصلت حكومة اشتيه إلى حافة الهاوية، حيث كادت أن تشرف على الامتناع عن الصرف، لفقدانها السيولة المالية. ما دفع بها، للالتفاف على قرار السلطة بوقف استلام أموال المقاصة، والقبول بـ «اقتراح» موشيه كحلون، وزير مالية دولة الاحتلال بإخراج ضريبة «البلو» (أي الوقود والمحروقات) من نظام المقاصة، وإحالة مسؤولية جبايتها لصالح السلطة الفلسطينية، بمفعول رجعي لمدة سبعة أشهر، هي الفترة الزمنية للامتناع عن استلام المقاصة، ما وفر للسلطة إيراد بقيمة ملياري شيكل، مكناها من الاستمرار بدفع أجزاء من الرواتب. ورغم البهجة التي عمت الأسواق، بعد أن صرفت السلطة 60% من راتب آب (أغسطس) و50% مما تبقى من راتب شباط (فبراير) إلا أن رئيس الحكومة اعترف أن الأزمة المالية لم تحل بعد، وإن إمكانية مواصلة الصرف لهذه النسب مضمونة.
وأكد وزير المال شكري بشارة الأمر نفسه، حين كشف في 4/9/2019 أن حكومته وصلت إلى حد «الاقتراض الأقصى» من البنوك العاملة في السوق المحلية، وأكد أن استمرار الاقتراض الحكومي من البنوك المحلية أثر على وفرة السيولة لدى تلك المصارف، وأن الحكومة اقترضت ما يزيد على 450 مليون دولار منذ بدء أزمة المقاصة، لتوفير النفقات العامة وفاتورة رواتب الموظفين العموميين، موضحاً أن أولوية الاتفاق حالياً تتمثل في الإبقاء على صرف رواتب الموظفين العموميين، وفق قدرة الحكومة [أي ربما أقل من 60% من الراتب] وسداد ديون لصالح البنوك، وأخرى مرتبطة بديون لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية التي هددت بوقف خدماتها باعتبارها هي «المزود الأكبر للطاقة للفلسطينيين».
(3)
من الواضح أن ما تعانيه السلطة من أزمات مالية، كما وصفها الوزير بشارة، ليس مفصولاً أبداً عن طبيعة القيود الاقتصادية التي كبلت الاقتصاد الفلسطيني، وألحقته بالاقتصاد الإسرائيلي، وهمشته، وهمشت قدرته على المقاومة، والتمرد، بفعل ما ورد في «بروتوكول باريس» الاقتصادي من التزامات مرهقة على السلطة، بقبولها ورضاها وفسادها.
الوزير بشارة (وزير المال في السلطة) يعترف في حديثه إلى «وكالة الأناضول» في 4/9/2019 بما يلي:
إسرائيل تتحايل في تطبيق «بروتوكول باريس» وتفرض إجراءات بشكل أحادي ما جعل الاحتلال مشروعاً مربحاً بامتياز».
ويضيف : «في العام 1994 (البدء بتطبيق بروتوكول باريس) كان حجم الاقتصاد الإسرائيلي 76 (ستة وسبعين) مليار دولار، ارتفع في العام 2017 إلى 369(ثلاثمائة وتسعة وستين مليار دولار). نعتقد أن جزءاً مهماً من هذا النمو لا يقل عن الثلث نتيجة منظومة «بروتوكول باريس».
ويضيف أيضاً «أن إجمالي ما اقتطعته إسرائيل من عائدات المقاصة (أي ضرائب فلسطينية على الواردات من إسرائيل والخارج تجبيها إسرائيل بالنيابة عن السلطة الفلسطينية) تجاوزت 12.5 مليار شيكل في السنوات الخمس الأخيرة فقط، منها حوالي 1.4 مليار شيكل عمولة إدارية على الجباية (3%) و11 مليار شيكل بدل خدمات: كهرباء وماء وتحويلات طبية وصرف صحي».
ويقول بشارة: هذا وحده يعطي فكرة عن مقدار الأموال التي اقتطعتها إسرائيل من المقاصة الفلسطينية على مدى 25 عاماً.
ويوضح بشارة معترفاً: الاعتماد بنسبة 60% من الدخل على مصدر ليس بأيدينا (المقاصة) مدمر للاقتصاد الفلسطيني، وهو بمثابة سكين على رقبتنا بشكل دائم.
ويضيف بشارة: أن إسرائيل تصادر من أموال المقاصة حوالي 144 مليون دولار سنوياً تعتبرها مخصصات عوائل الشهداء والجرحى والأسرى، و2.5 مليار شيكل سنوياً في آلية جباية الضرائب على المحروقات. أما الرسوم الإدارية التي تقتطعها مقابل جمعها للضرائب (3%) فتقدر بحوالي 270 مليار دولار سنوياً. والإضافات التي تفرضها إسرائيل على رسوم معبر الكرامة وتقدر بحوالي 480 مليون شيكل، والضرائب على المنشآت الواقعة في المنطقة المسماة «ج»، وتقدر بحوالي 870 مليون شيكل، والضرائب على الواردات الفلسطينية غير المباشرة (عبر وكلاء إسرائيليين) وتقدر بحوالي120 مليون شيكل سنوياً، والمبالغ الضائعة نتيجة آلية تقاضي ضريبة القيمة المضافة، التي تعتمد على إظهار الفاتورة، وتقدر بحوالي 159 مليون شيكل سنوياً، والضرائب الضائعة نتيجة عمل شركات الاتصالات الإسرائيلية في السوق الفلسطينية دون أن تدفع ضرائب، وسرقة المياه الجوفية وإعادة بيع جزء منها للفلسطينيين، والفوائد على الأموال المحتجزة لدى إسرائيل».
بعد هذا العرض، على لسان وزير المال في السلطة الفلسطينية، شكري بشارة، يصبح السؤال، ليس لماذا مازالت السلطة متمسكة «ببروتوكول باريس الاقتصادي»، فحسب، بل أية مفاوضات وأية قيادة أوصلت الحالة الفلسطينية إلى ما أوصلتها إليه، وهل يمكن الخروج من الأزمة المالية، دون الخروج من اتفاق أوسلو، و«بروتوكول باريس الاقتصادي»، وهل يمكن الخروج في ظل سلطة بنت نفسها، وفق قوالب مقيدة بالاتفاق، وبنت لنفسها مصالح على دوام الاتفاق واستمرار العمل به، وما هو مدى استعدادها للتضحية بالمكاسب التي بنتها وراكمتها إذا ما حاولت أن تخرج من الاتفاق. ألا يفسر هذا، لماذا مازالت السلطة وقيادتها تعطلان قرارات الخروج من أوسلو كما صاغها المجلس المركزي والمجلس الوطني، ولماذا تتهرب من الالتزام بالقرارات نحو لعبة تشكيل لجان الدراسة ووضع الخطط والآليات؟■
(4)
الحل لهذه الأزمة، كما يقول الوزير بشارة هو في الذهاب إلى التحكيم لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
يقول بشارة إن الرئيس محمود عباس وقع في آذار (مارس) الماضي، قرار الذهاب إلى التحكيم. وإن الحكومة قررت في بداية شهر أيلول (سبتمبر) أي بعد ستة أشهر من التوقيع على القرار، تكليف وزارة المال تحضير الملفات المطلوبة «بشأن القضايا المالية والاقتصادية العالقة مع إسرائيل» في إطار تطبيقات «بروتوكول باريس الاقتصادي» لرفعها إلى المحكمة.
طبعاً، ما بين صدور القرار، (آذار) وصدر قرار تنفيذه (أيلول) والشروع في تنفيذه (؟) وتقديم الملف إلى المحكمة (؟) ودراسة المحكمة للشكوى، والبت بصلاحيتها لمثل هذه الشكاوي، ثم دراستها، ومناقشتها، واتخاذ القرار بشأنها، يكون قد انقضى وقت طويل، بينما الأزمة تزداد استعصاء، والأمور تزداد تأزماً وتعقيداً.
وعندما تحضر مسألة التحكيم، يتبادر إلى الذاكرة تجربة التحكيم في ملف «جدار الفصل والضم العنصري» الذي اخترقت به دولة الاحتلال الضفة الفلسطينية، بما يشبه «الثعبان وهو يتلوى» كما وصفه رئيس الولايات المتحدة الأسبق بوش الابن، وهو يلتهم الأرض الفلسطينية.
ففي 8/12/2003 أحالت الجمعية العامة للأمم المتحدة ملف «جدار الفصل» إلى محكمة العدل الدولية لطلب رأيها الاستشاري «فيما يتعلق بالآثار القانونية لتشييد الجدار في الأرض الفلسطينية المحتلة». في 9/7/2004، أي بعد حوالي سبعة أشهر من الدراسة، اتخذت المحكمة قراراً ينص على «أن تشييد الجدار الذي تقوم إسرائيل، الدول القائمة بالاحتلال، ببنائه في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وما حولها، والنظام المرتبط به، يتعارض مع القانون الدولي». وأن إسرائيل «ملزمة بأن توقف على الفور تشييد الجدار»، و «أن تفكك على الفور الهيكل الإنشائي القائم وأن تلغي على الفور أو تبطل مفعول جميع القوانين التشريعية واللوائح التنظيمية المتصلة به».
وفي 20/7/2004 أقرت الجمعية العامة فتوى المحكمة الدولية، وطالبت إسرائيل «الدولة القائمة بالاحتلال بالتقيد بالتزاماتها القانونية على النحو المذكور في الفتوى».
ومع أن الجبهة الديمقراطية قدمت للسلطة مشروعاً لتحويل قرار الجمعية العامة إلى مجلس الأمن، لاعتماده في الباب السابع، إلا أن السلطة الفلسطينية أحجمت عن هذه الخطوة نزولاً عند «نصائح» صديقة دولية وعربية، «بعدم التصعيد ضد إسرائيل وعدم الاشتباك مع الولايات المتحدة حرصاً على سير عملية السلام»، وبالتالي بقي القرار الاستشاري للمحكمة، الدولية، كما بقي قرار الجمعية العامة بشأن «الجدار» حبراً على ورق. الأمر الذي يدعو للتساؤل عن مصير القرار المرتقب من محكمة العدل العليا، بشأن «بروتوكول باريس الاقتصادي»، في الوقت الذي تزداد فيه أوضاع السلطة هشاشة، وتنصاع لقيود الاحتلال، وترفض الخروج منها.
بقلم/ معتصم حمادة