ولما كان العدل أساس الملك، فإن دعائم العدل قاضٍ نزيه، ونزاهة القاضي لها مقومات واشتراطات، اهتم بها الغرب، وكتب عنها المؤرخون العرب كثيراً، وتم تحديد صفات القاضي العادل؛ والذي يتميز بالعلم والدراية، والحكمة والمعرفة، وسعة الصدر، وحسن السيرة، وطلاقة الوجه، والقدرة على التأمل والتفكير والتدبير، والحذر من التسرع، والصرامة في اتخاذ القرار، ليبقى الأهم من كل ما سبق، تلك الأرضية الاجتماعية التي تؤهل القاضي لسداد الرأي، لذلك حرصت المجتمعات المتطورة على توفير سبل العيش الكريم، والحياة المستقرة للقاضي، وأعطته من الامتيازات الوظيفية ما لم تعطه للوظائف الأخرى.
لقد اشترطت بعض المجتمعات المتحضرة لوظيفة قاضٍ التفوق العلمي، ولم تسمح بدراسة القانون إلا لأوائل الطلبة، فكان خريجو القانون من المبدعين القادرين على التمييز في القضايا، وهم الموصوفون بالنباهة، والقدرة على التمعن والاستنتاج، حتى صار التقدم في القضاء في الدول المتحضرة عنواناً لنجاح المجتمع واستقراره.
المحاكم الشرعية في قطاع غزة تعج بالقضايا، وعدد القضاة لا يتناسب مع عدد القضايا، لذلك فإن غزة بحاجة إلى قضاة شرعيين جدد، يبدأ اختبارهم من اليوم الأحد وحتى أسبوعين، والاختبار بحد ذاته ميزة تشكر عليها قيادة غزة، ويشكر عليها رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي الدكتور حسن الجوجو، حيث سيكون التفوق في الاختبار شرطاً للوظيفة، وهذا خير ضامن لعدم تعيين القضاة وفق المعرفة والواسطة والجاه والتدخلات السياسية والتنظيمية، الاختبار التحريري والشفوي والمقابلات الشخصية دليل نزاهة في اختيار القاضي الكفء العاقل القادر الواثق من نفسه، وفي هذا المقام لا بد من التذكير بأهمية الذكاء والفطنة التي تميز قاضٍ مبدعٍ عن أخرٍ تقليدي، ولا بد من التذكير بضرورة نشر نتائج الاختبارات للجمهور أول بأول، بما يدع مجالاً للطعن أو التشكيك في النتائج، ففي غزة 4 مليون عين تراقب، و2 مليون لسان يعقب على كل صغيرة وكبيرة، ومجتمع يعاقب.
في غزة، نظر أحد القضاة في قضيتين؛ الأولى تطالب فيها الأرملة من والد زوجها المتوفى نفقة لأولادها الفقراء، وفي القضية الثانية، تطالب الأرملة نفسها من حماها أن يعيد أموال القاصرين التي استحوذ عليها.
نظر القاضي في القضتين وقال للمحامي: لا تناقض نفسك، فإما أن يكون الأطفال موضع الشكوى فقراء مساكين بلا مسكن، وعلى جدهم أن يوفر لهم الطعام والإقامة، وإما أن يكون للأطفال أموال وتركة، وعلى جدهم أن يعيدها لهم، أو أن ينفق عليهم من أموالهم.
بهت المحامي، وأدرك صغر عقله وتدبيره أمام ذكاء القاضي، فسحب أوراقه، ووعد أن يعاود التدقيق في شكواه، بما يتناسب والحالة.
القاضي الذكي يختزل الزمن، ويقرب المسافات، وينجز في أيام ما يعجز غيره عن إنجازه في سنوات، والقاضي الفطن، يضع أصبعه على وجع القضية من اللحظة الأولى، يعالج، دون السماح بتقرح جراح المجتمع.
د. فايز أبو شمالة