كشف الباحث والمؤرخ بشير بركات معلومات شيقة ومثيرة عن تاريخ طب الأسنان في مدينة القدس، وذلك في لقاء مع صالون القدس الثقافي عقد في متحف التراث الفلسطيني، التابع لمؤسسة دار الطفل العربي، أكد فيها أن علاج الأسنان كان جزءًا من عمَلِ الجرّاح في البيمارستان الصلاحي، نسبة الى البيمارستانات/ المشافي- التي انتشرت في العهد الايوبي زمن الناصر صلاح الدين الأيوبي.
وظهر من خلال استعراض سريع لتاريخ تطور طب الأسنان في القدس إصرار الشعب الفلسطيني بمختلف شرائحه على التمسك بالعلم ومواكبة روح العصر، رغم الهجمة الاستعمارية والصهيونية التي حاولت إطفاء جذوة كفاحه وإصراره على الصمود والبقاء في أرضه مهما كلفه ذلك من أثمان، لنفي المقولة الكاذبة "وطن بلا شعب لشعب بلا وطن"، حيث أثبت الشعب الفلسطيني أنه شعب حي وعصي على النسيان والاندثار.
الحلاقون والمزيّنون..
وأشار إلى أن علاج الأسنانِ في القدس تدهور بعد حملةِ إبراهيم باشا، جراء قضائه على فكرة البيمارستان، فأصبح المريضُ تحت رحمة الحلّاقين. ثم وَفَدَ إلى المدينة أطباءُ أسنانٍ من دول غربية، مارسوا مهنتهم لدى طبقات المجتمع العليا، فيما استمر الحلاقون في علاج الفقراء.
وأشار بركات إلى أهمية البيانات التي دوَّنها طبيبُ الأسنانِ الأميركي الدكتور هنري أمبلر ونشرها في كتابه طب الاسنان حول العالم الصادر عام 1910 م، حيث كان طبيبان فقط في مدينة حيفا، في حين كان عددُ سكانها 12 ألف نسمة.
ولم يُحْصِ أمبلر عددَ أطباءِ الأسنانِ بالقدس بدقَّة، لكنه تحدَّثَ عن 14 منهم. وأشار إلى وجود، أرمنيٍّ واحد، ويونانيٍّ واحد، وإيطاليٍّ واحد، وعربيٍّ واحد، وألمانيَّيْن اثنَيْن. وقال إنه شاهدَ آرمات ويافطات لأطباءِ أسنانٍ كبيرةَ الحجم، حيث تراوحَ طولُ الواحدة ما بين ثلاثة إلى ثمانية أقدام. وأشار أمبلر إلى وجودِ فُرَصٍ جيّدة لطبيب الأسنان الأميركي إذا رغب في العمل بالقدس آنذاك.
ورغم أنّ مُمارسة طبِّ الأسنان في إسطنبول كانت تَستلزِمُ الحصولَ على رخصةٍ رسميةٍ آنذاك، فقد ذَكرَ أمبلر أن شابَّيْن أميركيَّيْن، قَدِما من أميركا واستقرّا في القدس، ثم تعلّما بنفسَيْهما طب الأسنان، وتدرَّبا على المهنة على عاتقَيْهما، وبعدئذٍ اشتريا المُعَدّات والمواد اللازمة وباشرا العمل.
وأكَّد " أمبلر" أنه لم يكن هناك أيُّ قانونٍ يَمنعُ أيَّ أحدٍ من افتتاحِ مَكتبٍ أو عيادةٍ في القدس. وكان الدكتور جبرا أرائيش من أوائل أطباء الأسنان العرب في القدس، حيث افتتح عيادته قبل عام 1910 م، فوق المدخل المؤدّي إلى سطحِ دكاكينِ الصفِّ الشرقي في سُوَيْقة باب العامود. وقد استمرَّ موقعهُ عيادةً طبيةً حتى يومنا هذا، فبعدَهُ أصبحَ عيادةً للدكتور حنا عطا الله ثم لمهدي الحسيني ثم لنديم النحوي ثم لسليم الحسيني، وفيه عيادةُ طبيبِ الأسنان هيثم العلمي حاليًّا.
وتشيرُ بعضُ البياناتِ إلى وجودِ مُختبراتٍ لفنّيّي الأسنانِ في القدس، فقد كان الدكتور الألماني "براون" يصنع أطقمَ أسنانٍ أواخر العهد العثماني.ويُطلِقُ الفلسطينيّون على "الطقم" أيضًا "ضَبَّة" أو "دِكَّة".
نقولا طليل طبيب أسنان مفتي فلسطين
بدأتْ سلطاتُ الاحتلالِ البريطاني بتطبيقِ أنظمةٍ وقوانينَ غربيةٍ في مختلَفِ أرجاء فلسطين، تمهيدًا لإنشاءِ دولةٍ قوميّةٍ لليهود فيها. وشَمِلَ ذلك طِبَّ الأسنان.
ففي أيار 1926 م، نَشرَ المندوبِ الساميّ مشروعَ قانون أطباء الأسنان، الذي يُمْنَعُ بموجَبِهِ أيُّ شخصٍ من مُمارسةِ تلك المهنةِ بدون رخصة، ونَصَّ على سحْبِها منه إذا ظَهرَ للسلطاتِ عدمُ كفاءته. ولكنّ ذلك لم يعتمدْ على حصولِه على شهادةٍ جامعيةٍ بالضرورة. وقد بلغ عدد أطباء الأسنان في فلسطين 198 طبيبَ أسنانٍ من مُختلَف الأديان والاجناس عام 1928م، وارتفع سريعًا إلى 539 طبيبَ أسنانٍ عام 1934م. وكان يوسف بشارة مناويل (توفي 1941م) أحد أقدم أطباء الأسنان العرب في القدس، حيث حصلَ على رخصةِ مزاولةِ المِهْنةِ في كانون الأول 1927م.
ومن أطباء الأسنان خلال مدة الاحتلال البريطاني أيضاً: هاكوب كراكوزيان، وإبراهيم جورج، وسليم سلامة، وعيسى عبد الله الدجاني. وكان من أشهرهم نقولا دواد طليل الذي مارس طبَّ الأسنان في القدس منذ عام 1919م. وكان الحاجُّ أمين الحسيني أحدَ مَرضاه. وهو والدُ طبيبي الأسنان: داود وحنّا. ومنهم توفيق حنّا شاغورية الذي تلقّى علومَهُ في كليةِ طبِّ الأسنان في باريس، وحَصل على رخصةِ ممارسةِ المِهنة في القدس عام 1938م. وكانت عيادتُه ومنزلُه في شارع الأنبياء في حيِّ المُصْرارة، قرب دار طليل. وقد توفي في القدس فجأة عام 1943م. وما زالتْ لافتةُ عيادتِه منصوبةً على مَدْخلِ منزلِه. وقد حلَّ في موقعِهِ الدكتور الالماني ليون هَمِل عام 1947م. وفائق صفير، وكانت عيادتُه في شارع الأميرة ماري. والدكتور كامل جريس إيتَيِم، وكانت عيادتَهُ بعمارة قوّاس في شارع مامِلّا في القدس عام 1941م. وسامي أبو صوان الذي نال شهادة طبِّ وجراحة الأسنان من الجامعة الطبية الفرنسية في بيروت عام 1940م، وافتَتحَ عيادةً في شارع مامِلّا. وبرهان عبد الهادي الذي نال شهادةَ طبِّ الأسنان من جامعةٍ ألمانية، وكانت عيادتُه في شارع مامِلّا.
وقد عُقِدَ المؤتمر الأول لأطباءِ الأسنان العرب في جمعية الشبان المسيحية في أيار 1944م، وافتَتَحهُ الدكتور إبراهيم جورج، وتكلَّمَ فيه مندوبان عن يافا وحيفا، وحضرَهُ أطباءُ أسنانٍ من سوريا ولبنان والأردن. وفي 1944م قرَّر المُجتمِعون تشكيلَ لَجْنةٍ دائمةٍ لأطباء الأسنان العرب في القدس، فكانت تلك نواةً لنقابةِ أطباءِ الأسنان العربية.
ماسح أحذية أصبح طبيب أسنان
وقال بركات إن أطباء الأسنان في القدس استأنفوا عَملَهم بعد النكبة. وفي أوائل العهد الأردني تمّ تأسيسُ "نقابة أطباء الأسنان"، وتشكَّلَ مجلسُها الأول في المدَّة (1952- 1956م) برئاسة برهان عبد الهادي، إلا أنَّ بعضَ التقاليدِ القديمة استمرَّتْ حتى أوائل العهد الأردني، ففي أيلول 1950م نشرَتْ جريدةُ الصريح تقريرًا تحت عنوان"المُمرِّض الذي أصبَح دكتورًا للأسنان"، جاء فيه أنّ ماسِحَ أحذيةٍ أصبح مُمرِّضًا، وأخيرًا أصبح طبيبَ أسنان، رغم أنه لا يحمل أيَّ شهاداتٍ علمية، وأضافتْ أنّه يمارسُ عملَهُ كطبيبَ أسنانٍ بيدٍ واحدةٍ فقط. ورغم أنّ أطباءَ الأسنان احتجّوا لدى دائرة الصحة، الا أنها اتَّخذتْ موْقِفًا مُحايدًا، ثم أرسلوا برقيات احتجاجٍ شديدةً إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووكيل وزارة الصحة. وتساءلت الصحيفة: "ما قيمةُ العِلْمِ والشهاداتِ إذا أصبح الممرض دكتورًا يُهَشِّمُ الأسنانَ ويُهربدُ الأنيابَ بكماشةٍ أو شاكوشٍ، وبيدٍ واحدةٍ أيضًا؟". وكانت عيادةُ الدكتور المذكور في وسط الصفِّ الشمالي من سوق البازار، في الموقعِ الذي يوجَدُ فيه النُّزُل السويدي حاليّاً".
وقدم الأستاذ خضر الشهابي مداخلة عن تاريخ مختبرات الأسنان في القدس، حيث كان الفنيون يأخذون المقاييس ويجهزون أطقم الأسنان دون الرجوع إلى طبيب الأسنان أصلًا.
وفي ختام اللقاء، ذكرت المربية ماهرة الدجاني، رئيسة المؤسسة، أن مدرسة دار الطفل العربي حصلت على عيادة لعلاج الأسنان، وأنها بحاجة إلى أطباء يتبرعون لتشغيلها، فتم الاتفاق مع الدكتور صائب بركات والدكتور مجد الهدمي على متابعة الأمر.