في زيارتي الأخيرة إلى رام الله التقيت بصديقي نقولا عقل وأهداني كتاب "رسائل في التجربة الاعتقالية" للكاتب الفلسطينيّ الأسير وائل نعيم أحمد الجاغوب (الصّادر عن "جسور ثقافيّة/الرعاة للدراسات والنشر، يحوي في طيّاته 167 صفحة من الحجم المتوسط، تصميم عبد الفتاح الطناني).
يُعنى أدب السجون الكلاسيكيّ بتصوير الحياة خلف القضبان، يناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء،
يبقى السؤال مفتوحًا حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟ يقوم سجناء بتدوين يوميّاتهم وتوثيق كل ما مرّوا به، هم وزملائهم، من أحداث داخل السجن، فهو إذا صحّ التعبير، "رواية السيرة الذاتية".
يحوي الكتاب مقدّمة واثنا عشر "رسالة"، بعد الإهداء "إلى كلّ من أعادوا رسم دروب الأمل، مُقاومات ومُقاومين مسيرات الحريّة، مسيرات العودة.. إلى كلّ من شارك، إلى الشهداء والمصابين والأسرى، إلى رفاق الدرب داخل المُعتقلات ومن مرّوا بها"؛ فالكاتب أسير، أعتقل للمرّة الأولى بتاريخ 16 أيّار 1992 وحكم بالسجن 6 سنوات، أعتقل للمرّة الثانية بتاريخ 1 أيار 2001 وحكم بالسجن المؤبد وما زال حرًّا خلف القضبان.
يصوّر بدايةً أحلام الحريّة وكوابيس الأسر، الإعتقال والزنازين والتحقيق بأساليبه الوحشيّة والقمعيّة، وأشرسها الوحدة في الزنزانة وخِدعة "غرفة العار"، المليئة بالعملاء و"العصافير" لمحاولة ثنيه عن الصمود وإبتزاز اعتراف منه، منعه من التواصل مع محامي لأكثر من شهرين، حرمانه من التواصل مع عالمه لتصله أخبار رفاقه واستشهادهم بالقطّارة، المواجهة اليوميّة مع السجّان والنضال ضدّ ممارساته القمعيّة وساديّته.
يصوّر رحلته ليتعرّف على أرضه ووطنه السليب وجغرافيّته عبر السجون التي مرّ بها خلال رحلته الإعتقاليّة؛ يسير مكبّل اليدين والقدمين فوق ترابها، وحين حدّث رفاق زنزانته عنها شعر بأنّه مرشد نضالي لجغرافيا وتاريخ؛ المسكوبيّة المقدسيّة، بتاح تكفا، عسقلان، الجلمة، الدامون، عتليت، هداريم، هشارون، تل موند، كفار يونا، الرملة، بئر السبع، شطّة، الجلبوع، نفحة قلب الصحراء، النقب الصحراويّ وغيرها، وحين تسلّقت "البوسطة" المقيتة جبل الكرمل قفزت إلى ذاكرته عبارة غسان كنفاني على لسان ليلى، بطلة قصّته القصيرة "شيء لا يذهب": "باستطاعتك أن تغادر حيفا، أن تهرب منها، لكنّك في يوم ستأتي، لا بدّ لك من أن تصحو، وتكتشف، وتندم"!
يتناول بسخرية سوداء ديمقراطيّة الزنازين، فالرأي الحر فيها، مفارقة عجيبة، وأنت أسير تستطيع أن تعبّر عن رأيك بكامل الحريّة والصراحة! القوى السياسيّة داخل الأسر تمارس العمليّة الديمقراطية رغم ما يُفرض من معيقات وحريّة التعبير داخل الأسر أوسع ما هي عليه خارجه والممارسة الديمقراطيّة تكن أوسع وأشمل وكذلك تكافؤ الفرص، منع التواصل عبر الشبك المعدني وتحويله لزجاج فاصل(وهنا حضرني ما رواه لي الأسير حسام شاهين حين التقيته يوم 20 حزيران في سجن الجلبوع عن لقاءه بأنكين هوتفلدت النرويجيّة، عرفها قبل أسره وبعد مضيّ سنوات سُمح لها بزيارته وحين التقته خلف شِباك السجن مدّت يدها لمصافحته لكنّ الحاجز المشبّك حال دون ذلك، تلامست أصابعهم فارتبك حسام وسألته أنكين بعفويّة ما سبب ارتباكه؟ أجابها أنّها المرّة الأولى منذ اعتقاله يلامس بشرًا "غريبًا" وحتى الأهل لا يستطيع ملامستهم واحتضانهم فصاحت به "touch"، "تاتش"، "touch"، "تاتش"، ممّا لفت انتباه السجّان فانقضّ عليهما موبّخًا ونقلها لغرفة ذات حاجز زجاجي دون "شبك"!
تطرّق إلى إضرابات الأسرى التي تشكّل السلاح الفعّال بأيديهم للحصول على حقوق أساسيّة، معركة الأمعاء الخاوية، فالإضراب رحلة الجسد وعنوان الإرادة، عيادات السجون التي تشكّل دورًا مركزيًا خلال الإضرابات ومحاولة كسرها، عذاب المحاكم العسكريّة الاحتلاليّة الجائرة وكونها صُوريّة ومشروع مقاطعتها، فالمحكمة إحدى أدوات الاحتلال المرفوضة لأنّها فاقدة للشرعيّة، الحرب اليوميّة لنيل الحريّة الكاملة، تيمّنًا بمقولة نيلسون مانديلا: "الحرية لا يمكن أن تُعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون جرًا أو لا يكون"!
تناول الكاتب حالة الترهّل التنظيمي الداخلي التي تتصدّر المشهد، التشرذم والتفرقة، فرز الأسرى على قاعدة انتماءهم لجهاز أمني أو جناح عسكري أو فصيل فيغيب الانتماء للوطن ويصير إنضواء تحت مظلّة حزبٍ ما، والمنافسة على المواقع القياديّة داخل الأسر والهرميّة المقيتة! غياب الديمقراطيّة الحزبيّة والقيم تصير في مهبّ الريح، الأسرى القدامى واستقبالهم للأسرى الجدد والعلاقة بينهم، الانقسام في الشارع الفلسطينيّ وانعكاسه على السجون.
تناول مسألة أسرى الداخل الفلسطيني ولقائه بهم وتعرّفه عليهم؛ وليد دقة، رشدي وإبراهيم أبو مخ، مخلص غربال، ماهر وكريم يونس، عبد الله أبو جابر، أمير مخول وغيرهم ممّا أعاد تصويب المفاهيم والرؤى، فهم داخل دائرة النسيان وخارج الحساب الوطني، ورغم ذلك بقوا قامات لا تعرف الانحناء.
ينتقد بحِرقة موقف الشارع الفلسطيني تجاه قضيّة أسرانا، بما فيه الأسرى المحرّرين، "ما أن تغادر الأسر حتى يغادرك أو تسعى لذلك، فلا تقوم بما عليك القيام به، في الأسر ترى الأمور بمنظار الأسير، وخارجه ترى الأسر بمنظار من هو خارجه، لا يعود يعنيك الكثير من أشيائه...عندما تكون في الأسر تنتقد، تشتم، تتذمّر، وما أن تغادر حتى تصبح في الواقع الذي كنت تستنكره، وكم من ثائرٍ انتقل من موقع المستنكرِ إلى المستنكرَ!!"، إهمال قضيّة الأسرى لأنّ الأسير يشعر بالفرق الشاسع بين الاهتمام به قبل أسره وانعدامه بعد الأسر وكأنّ الغياب القسري يُسقط الاهتمام.
يصوّر وائل في قصصه وحكاياته معاناة الأسير اليوميّة، دخوله الأسر وتأقلمه مع زملائه الأسرى، صعوبات زيارة الأهالي التي تشكّل الحبل السرّي الذي يغذّيه ويربطه بما هو خارج الجدران، التواصل مع العالم الخارجي، شتى وسائل التعذيب النفسيّة والجسديّة التي يتعرّض لها الأسير، سماع خبر وفاة صديق أو رفيق، يرفض تصديق خبر استشهاد رفيقه الأسير كميل أبو حنيش عدّة مرّات (وتبيّن لاحقًا أنّها مفبركة وكاذبة بهدف كسره وتحطيم معنزيّاته)، خبر استشهاد أبو علي مصطفى الذي يذكّره بمقولته "عدنا لنقاوم..لا لنساوم"، أو خبر رحيل ياسر عرفات. جدران السجن تستنفذ مخزون الذكريات فيعيدها الأسير ويعتاش عليها بما يشبه الاجترار فيجد نفسه في كلّ جولة ملتفتًا لتفاصيل لم يعرها انتباهه سابقًا.
يتناول وائل بإسهاب حكاية أسر أحمد سعدات، منعه من الزيارات العائليّة، نقله من سجن لآخر، حبسه في الزنازين لفترات طويلة، محاولات كسره المستمرّة التي باءت بالفشل وصموده البطوليّ في وجه سجّانه ومكانته في الحركة الأسيرة.
تناول كذلك دور الأسيرات ويصوّر موقفهن المشرّف حين رفضن الإفراج عنهنّ واشترطنه بتحرّر كامل الأسيرات، بقين عامًا ونصفًا على هذا الموقف الصلب الذي أجبر المحتلّ تحريرهن جميعًا!
قصّة أسرانا لم تُحكى بعد؛ بقت مُهمّشَة ومُغيّبَة والكتاب لُبنة ومدماك أساسي من فسيفساء لم يكتمل. هناك ضرورة قصوى وملحّة لتسجيل شهادات وقصص وحكايا أسرانا التي لم تُحكى بعد ولو نُشرت تلك القصص لتكوّن اللوحة الصحيحة للحركة الأسيرة، مؤسّساتنا تجاهلت قضيّة الأسرى وهمّشتها، عدا صرخات هنا وهناك في خيمات الاعتصام الموسميّة وعبر الكاميرات كضريبة كلاميّة، وهنا لا بدّ من الإشادة بدور دار الرعاة للنشر والمكتبة الشعبيّة لدعم الحركة الأسيرة عبر نشر إصدارات لأسرانا وحبّذا لو يحذوا حذوها ناشرينا لإيصال صوت أحرارنا الأسرى.
وأخيرًا، لفت انتباهي غيابُ الفنّان صاحب صورة الغلاف فلم يُنصَف، تواصلت مع مصمّم الغلاف لإعطاء صاحب اللوحة بعضًا من حقّة فكان جوابه أنّها من ملصقات الجبهة الشعبيّة؟ وكذلك وقوع الكاتب في فخ التنظيم ومحاولته صبغ نضال الأسرى بلون فصيله متجاهلًا معاناة، صمود ونضال رفاقه في الأسر من تنظيمات وفصائل أخرى.
كلمة لا بدّ منها؛ بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون في حزيران، التقيت بعض "أبطال" الكتاب، فكان لقراءته مذاقًا آخر، نعم، أخبروني بأنّ الكتابة مُتنفّسًا لهم، وهي فضاء حرّيتهم، لكلّ أسير قصّة، والقصص العظيمة لم تُحكى بعد، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيق قصص أسرانا لأنّها الشاهد والدليل على مأساتنا ونكبتنا المستمرّة.
ويبقى الأمل بالحريّة والحلم بها محلّقًا في فضاء المعتقل، إيمانًا بما قاله باولو كويلو: "الحالمون لا يمكن ترويضهم"!
تحية خالصة وخاصة لجميع أسرى وأسيرات الحريّة في السجون آملاً لهم إفراجا قريبا
بقلم/ حسن عبادي