ان المعركة الانتخابية الحالية للكنيست الاسرائيلي تختلف عن سابقاتها فهي أشد حدة وتنافساً بين الأحزاب السياسية و من حيث نتائجها الدراماتيكية بالنسبة لنتنياهو ومعسكره اليميني المتطرف, وكما انها تميزت بتمحورها حول نتنياهو ومستقبله السياسي لاسيما وأنها تتزامن مع اقتراب الموعد الذي حدده المستشار القانوني للحكومة للاستماع لأقواله حول قضايا الفساد الموجهة ضده أمام لجنة قانونية خاصة قبل إصدار قرارها النهائيهذه الحقيقة يدركها نتنياهو جيداً ويعتبر فوزه في الانتخابات "وهذا لم يحصل" كملاذه الأخير, ويتمكن من تشكيل حكومة تُقدم له طوق النجاة وتساعده على تمرير قانون الحصانة الذي يمنع تقديمه للمحاكمة طيلة فترة ولايته رئيساً للحكومة.
هذه النتائج لانتخابات الكنيست الإسرائيلي شكلت صفعة لبنيامين نتنياهو، الذي ركب في دعاية حملته الانتخابية موجة عالية من التطرف اليميني بدءاً من استرضاء المستوطنين بإعلان نيته ضم الأغوار الفلسطينية ومنطقة شمال البحر الميت ومناطق جنوب الخليل، وفرض السيادة الإسرائيلية عليها كخطوة أولى على طريق ضم الكتل الاستيطانية والمستوطنات والبؤر الاستيطانية إلى "دولة الاحتلال الإسرائيلي"، وانتهاء بلجوئه إلى أكثر أشكال الانحطاط في التحريض العنصري ضد المواطنين العرب الفلسطينيين في "إسرائيل".
لا سيما ان الخارطة السياسية في "إسرائيل" دخلت في مرحلة تشكيل جديدة صعبة ومعقدة بعد فشل نتنياهو ومعسكره اليميني الاستيطاني والعدواني المتطرف والعنصري في انتزاع فوز يوفر له حصانة من تهم الفساد ويمكنه من تشكيل حكومة مستوطنين معادية للوجود الفلسطيني على ارضه, لذلك, يجب عدم الوقوع في الحسابات السياسية الغامضة فلسطينيا,وارسال رسالة سياسية واضحة للإدارة الاميركية برفض مشاريعها لتصفية القضية الفلسطينية مهما اتخذت من تسميات وعناوين, ورسالة واضحة لجميع المعسكرات السياسية في "إسرائيل" بأن الجانب الفلسطيني ماض في خياراته السياسية والوطنية, وإعادة بناء العلاقة مع "إسرائيل" وفقاً لرؤية وطنية استراتيجية باعتبارها دولة احتلال كولونيالي استيطاني و كيان تمييزعنصري وتطهير عرقي,والعمل على فك الارتباط بسلطات الاحتلال بدءاً من الورقة السياسية أولا, بسحب الاعتراف "بدولة إسرائيل",ووقف التنسيق الأمني المشترك, الى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 بما فيها القدس وانتهاء بفرض المقاطعة على جميع البضائع الاسرائيلية، التي لها بديل وطني أو عربي أو أجنبي ومواصلة العمل على الساحة الدولية لكسب مزيد من الاعتراف الدولي بدولة فلسطين تحت الاحتلال وانضمام هذه الدولة إلى جميع منظمات ووكالات الأمم المتحدة.
في هذا السياق,السلطة الرسمية الفلسطينية قررت – وعلى ما يبدو إعلاميا واستعراضيا فقط - أن الإقدام على ضم الضفة العربية ومستوطناتها سيؤدي إلى إنهاء كل الاتفاقيات مع الاحتلال الاسرائيلي, ولكن من دون استعدادات جدية وعملية على الارض لتحقيق ذلك :لا تحركات سياسية ولا اقتصادية ولا قانونية ولا شعبية كفاحية بمستوى خطورة الإعلان، ولا بمستوى خطورة ما يجري على الأرض، وهو أخطر بكثير من الإعلان؛ كونه يجسد الضم الزاحف الذي يمهد لإنجاز الضم القانوني وعلى الطريقة الاسرائيلية.
كما ظهر في الأفق السياسي الفلسطيني الرهان على خسارة نتنياهو في الانتخابات الحالية, وخسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة, و بالتحليل السياسي,فان الرهان على الغيرلا يمثل أكثر من الاقرار بالهزيمة السياسية والانخراط في المشروع المعادي.
إضافة إلى ما سبق، علينا ان ندرك ان هناك (لاءات) اسرائيلية كبيرة بخصوص المشروع الوطني الفلسطيني تتحكم بسياسة جميع الأحزاب الإسرائيلية وعلى اختلاف مشاربها الأيديولوجية والموقعية,وان الرهان على الخلافات في ما بينها في الموضوع الفلسطيني ليس اكثر من مجرد أضغاث أحلام "وحلم ابليس بالجنة"، لأن الأولوية في ملعب الفلسطينيين (ذاتيا و موضوعيا) ما تستدعي بناء متطلبات واليات المشروع الوطني الفلسطيني واستراتيجيته الكفاحية للكل الفلسطيني بدون استثناء وعلى كامل امتداد جغرافية تواجده في الداخل والشتات.
يقول واقع الحال إن من أوصلنا إلى الكارثة الوطنية في الحالة الفلسطينية الراهنة لا يزال مقتنعًا أن أوسلو بنتائجه المدمرة هو خياره الوحيد, ويتلطى خلف شعارات شعبوية واستعراضية تخدم مصالحه البيروقراطية واجندة امتيازات سلطته الفئوية, بحجة الخروج عنه او الغائه سيخدم"إسرائيل"؟!,وأن المخرج منه سيقود الى إعادة إنتاج شبيه له والعودة إلى دوامة المفاوضات العبثية؟!، مع أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تخلت عنه منذ فترة طويلة ولا تريد إلغاءه حتى لا تتحمل المسؤولية عن ذلك، وحتى تبقي الفلسطينيين مقيدين بالتزاماته. فعملية السلام ماتت منذ زمن بعيد ويجب دفنها، ويجب على الكل الفلسطيني وخاصة السلطة الرسمية الكف عن اجترار ذات النغمة التبريرية أن هذه الخطوة أو تلك أدت إلى نسفها، مما يعكس استمرار التعلق بأوهام أوسلو وتعبيرا عن الإفلاس السياسي.
ان إعلان نتنياهو الاخير, وهو برسم كل المنظومة الأيديولوجية للأحزاب الإسرائيلية, بات يمثل بداية جديدة لمرحلة جديدة ,سياسة تهويدية وميدانية للأراضي الفلسطينية, خاصة بعد ان تم فرض قوانين جديدة من قبل "الإدارة المدنية" في أساليب التعامل مع السكان الاصليين، وهو ما تتجاهله "القيادة الرسمية"، وبدلا من الذهاب لاتخاذ قرارات فعل ميدانية خرجت لتشرح أن القرار يمثل خرقا للقانون والاتفاقات, في الوقت الذي بدأ فيه نتنياهو بتنفيذ الخطة الأمريكية "مسبقة الصنع" بطريقته الإسرائيلية الخالصة، محددا "واقع سياسي وميداني" جديد, وما على السلطة الفلسطينية الا التكيف معه ؟
ان موقف السلطة الرسمية الفلسطينية بات واضحا، لا لخطوة تصعيدية في وجه نتنياهو وسياساته, وانما الاستسلام للأمر الواقع وامام هذا المشهد من الحالة الفلسطينية الراهنة تبرز الحاجة الملحة لتبني استراتيجية فلسطينية شاملة، تعمل على استنهاض كل عناصر القوة داخل المجتمع الفلسطيني, وإعادة الاعتبار لقضيته الوطنية, وترتكزعلى فكرة مواصلة النضال والمقاومة الوطنية بكافة اشكالها، بحيث إذا أخفق مسار كفاحي معين، يتوجب تبني مسار بديل، وأن يتأسس برنامج النضال الوطني على فكرة تعزيز صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وممارسة كافة أشكال المقاومة، والنضال ضد كل تجليات سياسات الاحتلال الاستيطانية والعنصرية، وأن تتواكب المقاومة الوطنية الفلسطينية في مساراتها الموازية والمتصلة على امتداد جغرافية التواجد الفلسطيني في الداخل والشتات فإذا كان الهدف المعلن لفلسطينيي الأرض المحتلة هو إقامة دولة مستقلة، وكانت مطالب فلسطينيي 48هي المساواة والعدالة وضد سياسة التمييز العنصري، ومطالب فلسطينيي الشتات هي العودة؛ فإن الاستراتيجية الفلسطينية الشاملة، يجب أن تتضمن هذه الأهداف العادلة، وتصوغ برامجها الكفاحية على أساسها، بحيث تحافظ على وحدة الشعب وقضيته من خلال وحدة حقوقه لأن تهميش أي فئة من فئات الشعب الفلسطيني داخل الوطن أو خارجه ستؤدي إلى تقويض الهوية الوطنية الجامعة
ان مرور26 عامًا على اتفاق أوسلو؛ أوجد بنية كاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية، ويغذيها ويقويها أصحاب المصالح الذين نموا في ظل الاحتلال والانقسام، وانتشروا في ظل غياب البدائل الوطنية الحقيقية، وهم يرون أن استمرار الاتفاقات والالتزامات هي بمنزلة بوليصة تأمين على الحياة لاستمرار السلطة وامتيازاتهم.
ان ما يجري في المنطقة وعلى امتداد العالم، يشير إلى أن العالم مقبل على نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، منظومة عالمية وإقليمية يتشكلان من جديد، ويمكن جدًا أن يكون للفلسطينيين حضورهم القوي والمميز إذا استطاعوا توفير مستلزمات الحضور المطلوبة.
ان فاز نتنياهواو خسرالانتخابات، فان رهان الشعب الفلسطيني يجب ان يكون خارج هذه المعادلة, ويتمركز في وحدته وبرنامجه الوطني التوافقي والتزاماته البديلة عن أوسلو واستحقاقاته الفلسطينية, لأن جوهر المشروع الصهيوني وعلى اختلاف حكوماته المتعاقبة, يقوم على الغاء المشروع الوطني الفلسطيني وخلق الحقائق على الأرض – استيطانا وزحفا وضما - ثم ترسيمها قانونيًا ومؤسسيًا في الوقت المناسب و يدعي ان هذا هو واقع الحال.
بقلم/ د. باسم عثمان