من الواضح أن المؤسسة العسكرية في الجزائر تتجه إلى فرض رؤيتها بشتى وسائل الإكراه في معالجة الأزمة التي تعيشها البلاد، وخصوصاً لجهة خيار الذهاب إلى انتخابات رئاسية قبل نهاية العام الجاري وفرضه كأمر واقع، مع اللجوء في الوقت نفسه إلى انتقاد وتخوين الجهات الرافضة لذلك، التي تطالب بمرحلة انتقالية تسمح بتحقيق التغيير السياسي الشامل ورحيل رموز النظام السياسي القائم.
وكان قائد أركان الجيش، الجنرال أحمد قايد صالح، وصف أخيراً تلك الجهات بـ"الأصوات الناعقة ذات النوايا الخبيثة، التي باعت ضمائرها لتخدم مصالح العصابة ومصالح أسيادها"، التي تحاول "فرض شروط تعجيزية وإملاءات مرفوضة جملة وتفصيلاً"، في إشارة إلى القوى المعارضة ونشطاء الحراك الشعبي، الرافضين لرؤية الجيش وتوجهاته للخروج من الأزمة.
وقبل ذلك، حذَر قايد صالح من "المراحل الانتقالية وخيمة العواقب، التي يروّج لها بعض الأطراف ولا غاية لها سوى تحقيق مصالحها الضيقة ومصالح أسيادها"، وهي كلّها إشارات وتلميحات موجهة بالدرجة الأولى إلى "أحزاب وشخصيات محدّدة تنشط في إطار الحراك الشعبي ومعروفة برفضها لإجراء الانتخابات الرئاسية قبل إسقاط النظام الحاكم ورموزه في مختلف مؤسسات الدولة"، من منطلق أنّ الأزمة التي تعيشها البلاد "سياسية بالأساس، وتحتاج إلى معالجة سياسية توافقية، وبقدر ما نُعجّل بمثل هذه المعالجة، بقدر ما نتفادى أخطار الانزلاق وتصعيد التوتر"، كما يقول بعضها.
وفي ضوء ذلك كلّه، يتصاعد التناقض بين قيادة الجيش الجزائري وبين الحراك الشعبي ورموزه، وتشتدّ القبضة الحديدية المرفوعة بينهما منذرة بدفع الصراع إلى "مواجهة جبهية مباشرة" بينهما، تلقي بظلالها الثقيلة على كامل المشهد، وهو ما جسدّته الشعارات التي رفعت في التظاهرات الأخيرة التي كانت موجهة ضد قادة الجيش رافضة "خارطة الطريق" التي يطرحونها للخروج من الأزمة.
تشكيل هيئة لتنظيم الانتخابات
وكانت السلطات الجزائرية أعلنت أخيراً عن تشكيل سلطة (هيئة) لتنظيم ومراقبة الانتخابات، وسمّت وزير العدل السابق محمد شرفي رئيساً لها، برفقة خمسين شخصية أخرى من القضاة والقانونيين وبعض الناشطين في الحراك الشعبي، قبيل إعلان رئيس الدولة المؤقت، عن استدعاء الهيئة الناخبة لإجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية العام الجاري. وذلك من خلال خطاب شكلي لعبدالقادر بن صالح، يكرّس توجهات قيادة المؤسّسة العسكرية.
وشكل الكشف عن هوية رئيس هذه الهيئة والطاقم العامل معه، خلفاً لإدارتها السابقة، صدمة قوية لدى الشارع الجزائري المعارض، بالنظر إلى الخلفية السياسية والمهنية لهؤلاء، وقُربِهم من دواليب نظام الرئيس السابق، الموصوف من طرف السلطة الحالية بـ"العصابة". يُذكر أنّ شرفي كان مديراً لحملة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2014.
واللافت في تشكيلة السلطة الجديدة، الحضور البارز لعدد من ناشطي ومناضلي حزب طلائع الحريات، والمقربين من رئيسه علي بن فليس، الأمر الذي يعزز فرضية إمكانية استعانة السلطة الفعلية بالرجل ليكون مرشحها في الاستحقاق المرتقب منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر القادم.
وبالتوازي مع تجاهل مطالب الحراك المتمثلة بـ"التهدئة وتنحية حكومة نور الدين بدوي، وفتح مجال الحريات السياسية والإعلامية"، رأى خبراء قانونيون أنّ السلطة اكتفت بتعديلات شكلية على قانون انتخابات وضعه نظام بوتفليقة، ولم يتم سوى استبدال الهيئة السابقة فقط، إضافة إلى الخلط في الصلاحيات بين عمل اللجنة والمجلس الدستوري، حيث تبقى صلاحية دراسة الطعون والإعلان عن النتائج النهائية من نصيب الأخير، ما يفضي إلى بقاء هامش المناورة وإبقاء القرار الأخير في يد السلطة، بمعنى الإبقاء على فرص التحايل على إرادة الناخبين.
ورقة شراء "السلم الاجتماعي"
وإلى جانب دفع السلطة باتجاه الانتخابات بشتى الوسائل والسبل، بما فيها توظيف ورقة "شراء السلم الاجتماعي ببقايا المقدرات المالية للبلاد"، حيث قرّرت الحكومة رفع قيمة المنحة المدرسية، وكذلك رفع المعاش التقاعدي، مع احتمال إقدامها على بعض خطوات التهدئة، مثل الحديث عن احتمال رحيل حكومة نورالدين بدوي قريباً، إلا أنها تستمرّ بتعليق تعثر مشروعها السياسي على رموز النظام السابق وتلفيق الحديث عن وجود روابط بينهم وبين قوى المعارضة والحراك الشعبي الرافضة لطروحاتها، على رغم أنّ أغلبهم مسجونون، أيّ أنهم "خارج دائرة التأثير الفعلي في الحياة السياسية الجزائرية التي يتحكم في معظم خيوطها قادة الجيش والمخابرات بالدرجة الأولى".
أما مؤسستا الرئاسة والحكومة فهما، في نظر كثير من المحللين، مجرد ديكورات شكلية لا يتمتع المسؤولون فيهما بأي قدرة فعلية على اتخاذ القرارات الحاسمة، لأن أغلبهم من بقايا فلول النظام السابق، وهم يُستعملون الآن من طرف المؤسسة العسكرية لتصريف الأعمال فقط، وقد يُسرّحون أو يستبدلون كبيادق الشطرنج في أي لحظة.
تصعيد الحراك
وكردٍّ على ذلك، دعا ناشطون في الحراك الشعبي إلى تصعيد الحركة الاحتجاجية بمجرد الإعلان عن تاريخ الانتخابات الرئاسية، مع دعوات إلى اعتماد خيارات جديدة كالعصيان المدني والدخول في إضرابات شاملة، في وقت يُقرّ فيه الجميع أنّ الحراك الشعبي هو الجهة الوحيدة التي تملك موقفاً ووجهة نظر واقعية مؤسّسة على "التجربة المرة والطويلة مع النظام"، ومفادها أنّ "التوجه إلى الانتخابات الرئاسية قبل تصفية تركة النظام الجزائري، الذي خلق الأزمة الوطنية، هو قفزة غير محسوبة العواقب وتدخل في إطار إعادة إنتاج الحلول الطوباوية التي اعتاد عليها حكام الجزائر منذ الاستقلال إلى اليوم". وكما يقول بعض رموز هذا الحراك فإنّ "المشكلة الأساسية التي تعاني منها الجزائر هي أعمق من إجراء طقوس انتخاب رئيس للبلاد، ثم العودة إلى المربع الأول البائس المعتاد في المشهد السياسي الوطني".
وعلى ذلك، فإنّ مصير الانتخابات المقبلة يبقى مجهولاً وسيبقى الغموض يكتنفها، في ظل إصرار المعارضة والحراك الشعبي، على إسقاطها كما أسقطتا من قبل انتخابات نيسان/ أبريل وتموز/ يوليو الماضيين.
وفي هذا الإطار، تمسّك تكتل "البديل الديمقراطي" المعارض، بالمسار التأسيسي المعالج لفصول الأزمة وتحقيق الانتقال السياسي بإجراء انتخابات رئاسية بمقاييس نزيهة وشفافة. واحتج حزب "القوى الاشتراكية"، أقدم أحزاب المعارضة الجزائرية على "حرب إدارية تشنها السلطة ضد الأحزاب، التي لا تشاطر قيادة الجيش خيار تنظيم انتخابات رئاسية قريبة"، علماً أنّ "القوى الاشتراكية" أحد أعضاء "البديل الديمقراطي"، الذي يضمّ "جبهة العدالة والتنمية" الإسلامية، و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، إضافة إلى "حزب العمال" و"الحركة الديمقراطية والاجتماعية" اليساريين.
ورجّح مراقبون توسّع دائرة الاعتقالات السياسية في حق الناشطين والمعارضين، في إطار مخطط يستهدف إفراغ الحراك الشعبي من رؤوسه المدبّرة، بغية ضمان المرور المرن للاستحقاق الرئاسي المرتقب، حيث يجري الحديث عن "مخطط يستهدف توقيف العديد منهم"، وتم تسريب لوائح بأسماء بارزة في المشهد الجزائري، مما أثار القلق على مستقبل الوضع في البلاد برمّته؟!.
الصورة: "الشعب الجزائري سيد قراره"
بقلم/ فيصل علوش