مع بداية تسعينيات القرن الماضي ؛ توالد زلزالان ، وقعا فَأنتجا زلزالاً ثالثاً، الأوّلان هما : زلزال انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وما يعنيه ذلك دولياً ، وزلزال الهجمة الأطلسية على العراق أو ما يُسمّى "حرب الخليج الثانية"، وما يعنيه ذلك عربياً ، أما الزلزال الذي نتج فهو زلزال مدريد وأوسلو، وما يعنيه ذلك فلسطينياً ، أي ذلك التحوّل العميق في رؤية إسرائيل ، باعتبارها نقيضاً يجب نفيه وإلغاؤه .. ومن ثم شريكاً ينبغي مصالحته والتعاون معه.
هذه الزلازل الثلاثة زعزعت المُسَلّمات القديمة والمفاهيم القومية والأُممية، مثلما زعزعت الأيديولوجيا الحمراء التي كانت من المسلّمات أيضاً ، وكذلك قلبت المفاهيم رأساً على عقب، وهدمت الُمتَحَكِّم الذي كان مسيطراً في الوعي والأدبيات والخطابات الوطنية والقومية والأممية.
إضافة إلى أن القضية الفلسطينية بدأت تفقد مركزيتها وحضورها السابق، ولم يبقَ لها إلا الإجماع الأخلاقي والديني والعروبي، والذي بدأ يتقلّص لاحقاً بفعل أخطاء فلسطينية متواصلة، وتغذية إقليمية وعربية لها.
الزلازل الثلاثة أصابت أكثر ما أصابت الأرضية الفلسطينية، السياسية، والفكرية، والثقافية، ما أثار العديد من الأسئلة العميقة والكبيرة، وبروز لاءات توتّرت فيما يتعلق بينها وبين ما جرى (لاءات قومية، دينية، يسارية، إقليمية، شعبوية ..)، ووقوع اهتزازات أخلاقية وفكرية وسياسية عميقة في العقل الفلسطيني، في ظلّ غياب تواصل في الوعي ما أفقده توازنه ، وبالتالي قاده إلى أزمة إدراك . وفي ظل سيطرة العقلية التجزيئيّة والتعميمية والتجريبية التي أدت إلى الفشل والتيه، لأن الوعي لا ينطلق من ذاته عندما نواجَه بأسئلة تفرض علينا تغيير ذاتنا ، فعندها لن نجد أسس تغيير الذات، بل كان يجب الانطلاق من داخل الحدث ، وليس من خارجه ومن ثم إلى داخله، حتى لا نقع في الميكانيكية والآلية أو في تطبيق النظريات الجاهزة، عداك عن غضاضة التجربة،والتباس الأولويات وتداخلها، وتداخل الأجهزة والمصالح والصلاحيات وغياب التخطيط وسيطرة تلك العقلية ، ما أدى إلى إغراق الوعي ونفيه ومحاصرته . فالمؤسسة التي لا تخلق تُدمَّر، وبالتأكيد لا يكفي الاحتجاج السلبي، أو طرح ما هو بعيد عن الزمان والمكان وما يدور حولنا.
ما يكفي هو وجود استراتيجية – دائمة ، شاملة، حديثة، حريصة، متجدّدة، لمواجهة الاستراتيجية المقابلة النقيضة واستيعابها وتجاوزها. وربما كان ينبغي أن تتمّ معاركنا على أرضية عروبية إسلامية، وليس على شكل أو صيغة إقليمية فلسطينوية ، أي التركيز على الأنا والذات الفلسطينية باعتبارها مهددة بالإلغاء والاستلاب والتغريب وليست انتصاراً للفكرة الفلسطينية . كما كان ينبغي البحث عن لغة قادرة على أخذ جماع الانقلاب الجديد، والمفاهيم الوليدة، والأفكار الساخنة، الخارجة من فرن الأحداث الكبرى.
وإسرائيل التي تمّت صناعتها وإقامتها، هنا في فلسطين، وُجِدت أصلاً لتأدية دور وظيفي للقوى الإمبريالية الكبرى في المنطقة ، وبالتحديد الولايات المتحدة، لهذا من المستحيل أن تستجيب هذه الدولة لمعاني السلام وروح العدل. ولو أن إسرائيل قامت لحلّ مشكلة الإسكان لليهود لأمكنها التعايش مع محيطها ولكان بالإمكان الاعتراف الحُرّ بها والتعاون معها ، ثمّ إن اليمين الإسرائيلي هو الأكثر حضوراً ونفاذاً في إسرائيل ، وهذا ينسجم مع طبيعتها ودورها وفكرها ، بل إن اليمين ازداد ونما وانتشر أكثر في إسرائيل مع بدء انهيار طبقة (الحوساليم)، وهي الطبقة البيضاء الأوروبية الاشتراكية الكيبوتسية ، ومع بدء تصاعد الشرقي الفقير المتديّن القادم من مدن التطوير والمستوطنات اليهودية . وربما يكون واضحاً أن اليمين - في العقد الأخير أي في السبعينيات - بدأ يصعد نجمه في كثير من دول العالم، معتمداً على الظرف الاجتماعي والاقتصادي، والتطرف الديني (أمريكا وأوروبا على وجه الخصوص).
ثم إن اليمين الإسرائيلي بالذات متجذّر في السياسة الإسرائيلية منذ عشرينيات القرن الماضي، وهو يمين مكشوف الوجه لا يوارب، ولا يحاول تجميل صورة إسرائيل الديمقراطية الغربية إذا كان ذلك على حساب الفاتورة السياسية والأمنية. وإسرائيل – وبسبب الدعم الأمريكي الغربي المطلق لها – ترى في نفسها دولة "عظمى"، وتتصرف بغطرسة وخيلاء وصلف، ليس مع الفلسطينيين فحسب، بل ومع العالم أجمع، وهذا في جزء منه، يعود إلى التربية اليهودية القائمة على العنصرية ورؤية الأغيار"الغوييم" الفوقيّة. ولهذه الأسباب كلها فإن إسرائيل مستعدة لدفع الثمن الأمني والديمقراطي والأخلاقي من أجل الاحتفاظ بالأرض، وبمهمتها الوظيفية المتقدمة. عدا أن إسرائيل دولة ذات مؤسسات ونظام وقوة اقتصادية وعسكرية هائلة . أما السلطة الوطنية الفلسطينية ، ومنذ العام 1994حتى انفجار الانتفاضة العام 2000 وما بعدها، فإنها ظلّت سلطة ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، ولم تستطع أن تؤصّل مؤسسات مدنية وأمنية واقتصادية متماسكة وراسخة ، بقدر ما انحرفت بعض تلك المؤسسات عن مهمّتها ، وتنازعت فيما بينها ، وتراكمت التجاوزات والأخطاء، وغاب كثيراً عامل الحسم والمحاسبة ومبدأ الثواب والعقاب. وللتاريخ أقول إن ثمة أسباباً موضوعية داخلية، وأسباباً خارجية مؤثرة، عملت جميعها على إيصال السلطة الوطنية إلى ما وصلت إليه من وهن وتفكّك وضعف، إضافة إلى سيطرة العقلية التجريبية والتعميمية والتجزيئية ، والإبقاء على صيغ الحكم التقليدية ، الأمر الذي جعل الشارع الفلسطيني يضيق ذرعاً بمخاتلة إسرائيل وبممارستها الاستيطانية والقمعية وضربها عرض الحائط بكل الاتفاقات ، كما جعل الشارع الفلسطيني يضيق ذرعاً ، أيضاً، بحالة الفساد التي راحت تستشري في الجسم الفلسطيني، لهذا لم يكن هناك من مناص إلا أن ينفجر هذا الشارع ، فكانت "زيارة" اقتحام شارون الحرم القدسي الشريف ، الشرارة التي أشعلت النار في الهشيم المتراكم، وكانت الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى ، أو ما شئت تسميتها.
وما أشبه اليوم بالبارحة !
بقلم/ المتوكل طه