بينما يضرب الإنقسام عمق التجربة والثقافة الفلسطينية وتمر القضية الفلسطينية بأسوأ أحوالها وظروفها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ومنطقة تلتهمها رمال متحركة متعددة الإتجاهات والتوجهات والأهداف وبالتأكيد هي تلك الرمال الزاحفة على القضية الفلسطينية وهي تلك المناخات الذاتية التي تعصف بالبيت الفلسطيني في مجموعة من التناقضات وعدم القفز عن هذا الواقع بواقع جديد يستطيع أن يضع مصدات لكل ما يهدد قضيته. ولكن بالبعد الآخر عندما طرحت حركة التحرير الفلسطيني فتح في أدبياتها بأننا لا نتدخل في شؤون أي دولة عربية ما لم تتدخل في شؤوننا الداخلية، وعندما قالت إن القضية الفلسطينية هي فلسطينية الوجه عربية العمق عالمية الإمتداد، ودور الجماهير في دعم الثورة هو الرهان الحقيقي على نجاح حركة التحرر الوطني الفلسطيني وعدم استفزاز الجماهير ومصالحها وانتمائاتها الإقليمية لأوطانها، هكذا فهمت فتح كيف تدير الصراع مع العدو الصهيوني. فتح في الحالة النظرية وضعت الداء والدواء في آن واحد، ولكن باعتبار حركة التحرر الوطني الفلسطينية بكل ثقافاتها المختلفة من المفترض ومن البديهي أن تتجه نحو فلسطين مسخرة كل التناقضات فيما حولها لصالح القضية الفلسطينية وهكذا فعل عرفات بصرف النظر عن البرنامج السياسي الذي اتبعته منظمة التحرير وحركة فتح بعد منتصف السبعينات إلى الخروج من بيروت وما بعد بيروت، إلى أن مثلتنا سلطة لها حكومتين وبرنامجين تحت مظلة أوسلو، ولسنا هنا بصدد أن نضع تفاصيل قد تحتاج لمجلدات، كيف بدأت الثورة الفلسطينية وكيف سارت وكيف انطلقت وأين أخطأت وأين أصابت، ولكن النتائج تتحدث عن التجربة الفلسطينية الآن بكل افرازاتها سواء وطنية أو إسلامية.
قلت يجب أن نتعلم، وكيف نتعلم؟ وما هي الدروس التي أخذناها من مشوار طويل من التنافسات الحزبية ما قبل انطلاقة الثورة إلى التجربة الوطنية إلى التجربة الإسلامية الحزبية والتي هي على نقيض تنظيمي وفكري مع ما طرحته حركة فتح منذ انطلاقتها في أدبياتها بأن الجميع يجب أن يتجرد من قواعده وثقافته الحزبية لوحدة متكاملة حركية تحررية لتحرير فلسطين وعند التحرير قد تستطيع كل جهة وفكر أن يدعي أو يقول أو يمارس حقه في السلطة والحكم، لا هذا ولا ذاك حدث!
لقد أخطأنا في عمان سلوكيًا وتوجهات، وأخطأنا في بيروت بنفس حجم ومسلكيات ما حدث في عمان، وأخطأنا في الشتات بعد الخروج من بيروت في كل الساحات، وفشل طرحنا السياسي وكان هناك عدة انتقادات من الجماهير العربية حول تلك السلوكيات سواء فردية أو جماعية ولم تحدث أي مراجعات بل ازداد الفساد وانتقلت بذوره من الخارج إلى الداخل وإذا ما تغاضينا عن تلك السلوكيات الفردية والجماعية نتحدث عن المطبات السياسية التي دخلنا فيها سواء قوى وطنية أو إٍسلامية أو إلتزامات حزبية تفترض موقف ما يتجاوز حدود فلسطين وهذا هو الخطأ بحد عينه، وهو خطأ قاتل، فمازلنا نتذكر كيف وضعت حركة فتح ومنظمة التحرير في مأزق في غزو الكويت، وكان الخيار بين أن نقف مع العراق كحركة تحرر أو مع الغزو الأمريكي وفرضياته الدولية والإقليمية وكان الخيار الوقوف مع العراق. في لبنان أيضًا وقعنا في عدة استقطابات بين جميع الكتل الطبقية والحزبية والطائفية، فكان من المفترض أن لا نتواجد كثيرًا في تلك العواصم بحجة حاضنتنا الفلسطينية الشعبية، بل كانت حدود فلسطين من المفروض أن تكون هي تواجدنا وإعلاننا وإعلامنا وأسلحتنا وكل ما يقتضي الثورة الفلسطينية، هي نفس الأخطاء السابقة في عمان أما أخطاءنا التي عاصرتها أيضًا في الشتات فهي أخطاء قاتلة جعلت نفور من الجمهور العربي بدلًا من أنه كان يلتمس البركة من ثيابنا!
بالتأكيد تلك الأخطاء كانت مرتبطة بنهج إهمال الثقافة التعبئة الفكرية وأخطاء التصور الإستراتيجي للصراع والذي خرج عن نصوص حركة فتح وأدبياتها وعن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، وهي نفس الأخطاء التي استطاعت أن تفهمنا أن القيادة لا تتغير ولا تتبدل ولها الحق المقدس، حيث أصبحت فرز طبقي في داخل أطر حركة فتح وفي داخل منظمة التحرير فرز جغرافي أيضًا.
تلك الثقافة التي ازدادت عمقًا مع الإنقسام وتغذية الحالة الحزبية وتقديمها عن ما هو ضروري للوطنية الفلسطينية التي يتجاوز منطق الحزبية والفصائلية وبالتالي أخطأنا في سوريا بحجة أو بأخرى هي نفس الأخطاء ولكن بوجوه أخرى وبمشاهد أخرى، وأخطأنا في ليبيا، وأخطأنا في اليمن في الحرب الداخلية، في حين أن هناك نهج في حركة فتح كان عندما تحتدم الصراعات الداخلية ويوضع في المحك كنا نقول لهم نحن مع خيارات شعوبكم ولا يجوز لنا بأي منطق أن نبدي رأيا أو نتجاوز إرادة تلك الشعوب وخياراتها، وهكذا كان يجب أن يكون الأمر بدلًا من حالات الإستقطاب التي تفرض رأيًا حزبيًا يتدخل في شؤون هذا البلد أو ذاك، فقضيتنا الفلسطينية أعمق من ذلك، والمسؤوليات الوطنية تحتم علينا أن نكون أذكياء في لعبة التناقضات العربية والدولية وتسخيرها لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته وليس العكس من خلال أبواق شاذة تتدخل في شؤن هذا البلد أو ذاك متجاوزةً الجرف الفلسطيني الذي نعيش فيه الآن أو بالأمس، نحن نريد من الجميع أن يهتف لقضيتنا ويساعد شعبنا ولماذا نزج أنفسنا ونعتبر بديلًا عن شعوب تلك المنطقة ونعتبر أنفسنا بدلاء في تحديد خياراتها.
نحن نحتاج فعليًا لترميم ثقافتنا الوطنية التي صدرناها لأبناءنا تحت دواعي المناكفات الحزبية والفصائلية التي تنعكس بشكل أو بآخر على صورتنا أمام الشعوب الأخرى، ولنقدم الشكر لكل الشعوب التي مازالت تقف إلى جانبنا وتساعدنا في همومنا وأزماتنا ومصائبنا. العالم قد تغير، فما كان متاح في الستينيات لم يعد متاحاً في السبعينات، وما كان متاحًا في السبعينات لم يعد متاحًا بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، وما هو غير متاح الآن بعد العولمة وخسارة معظم دول العالم التي كانت مؤيدة لثورتنا ولحركة تحررنا وتعقيدات المصالح الإقليمية والدولية، ابحثوا عن شيء جديد يقوّي عزيمتكم ويضعكم في مربع الإحترام أمام الشعوب، فما زلنا نعيش كارثة أوسلو وثقافتها، وكارثة الحزبية الضيقة وثقافتها.
بقلم/ سميح خلف