حققت القائمة العربية المشتركة إنجازًا فاق التوقعات في الانتخابات الإسرائيلية، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، أبرزها تحريض رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو واليمين واليمين المتطرف على العرب، ولكن هذا لا يمثل نهاية القصة بل بدايتها. كما لا بد من الإشارة إلى أن أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة، ليس من المرجح أن يصبح رئيسًا للمعارضة الإسرائيلية، وما ينطوي عليه هذا الموقع من مزايا سياسية وقانونية ومالية وديبلوماسية مهمة، حتى لو شكلت حكومة وحدة وطنية تضم المعسكرين الكبيرين، لأن القانون الإسرائيلي يسمح لنصف أعضاء المعارضة فما فوق أن يستبدلوا رئيس المعارضة من خلال التصويت بالأغلبية المطلقة. كما من الممكن أن تتحد أحزاب الحاريديم بقائمة واحدة تفوق المشتركة من حيث عدد المقاعد وتغدو القوّة الثالثة، أي لن تختار الأحزاب الصهيونية التي ستكون خارج حكومة الوحدة على اختلافاتها عربيًا لرئاسة المعارضة.
لقد دعوت سابقًا إلى إسقاط نتنياهو، ليس لأن بيني غانتس أفضل منه أو تشجيعًا للتوصية به، بل لأن نتنياهو الأقوى والأخطر والأكثر خبرة وكاريزما، وارتكب وما يزال الجرائم بحق الفلسطينيين، ويستعد لضم معظم أراضي الضفة الغربية، وأقام شبكة من العلاقات المميزة، خصوصًا مع الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، إضافة إلى العرب المهرولين للتطبيع طلبًا للتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران. وكذلك لأنه يتحرك بدوافع شخصية ستدفعه إلى السعي الجاد لتطبيق برنامجه العدواني التوسعي العنصري المتطرف جدًا، حتى يضمن تجنب سجنه عن طريق استمرار دعم الأحزاب السياسية والدينية الأكثر تطرفًا له، التي تطلب الضم والإلغاء الفلسطيني مقابل الحصانة.
على أهمية الإنجاز الذي حققته القائمة المشتركة في الانتخابات الإسرائيلية، إلا أن من المبكر نعي نتنياهو و"صفقة ترامب" وأشياء أخرى لا حصر لها، وصلت إلى اعتبار بعض الكتاب والقادة الفلسطينيين، هنا وداخل الخط الأخضر، أنّ ما حدث تحوّل تاريخي، وهذا كله غير صحيح على الإطلاق.
لم يفز نتنياهو في الانتخابات كما أن معارضيه لم يفوزوا كذلك، ومعسكره لا يزال الأكثر عددًا وتماسكًا (55 مقعدًا مقابل 54 مقعدًا لغانتس متضمنة توصية القائمة المشتركة من دون نواب التجمع الثلاثة)، ولا تزال الفرصة أمامه لتشكيل حكومة يمينية مطعّمة بمشاركة أفيغدور ليبرمان الذي لا يمكن الرهان على موقفه حتى النهاية، فهو القائل بأن ما يربطه مع العرب العداء، بينما مع المتدينين المنافسة، وهو سيقف في الجهة المقابلة للموقف الذي سيتخذه العرب، وهذا يعني أنه لن يشترك مع غانتس من دون الليكود في ظل اعتماده على 10 نواب للقائمة المشتركة. فلا يمكن استبعاد أن يقرر ليبرمان وهو اليميني المتطرف بأنه سيشارك في حكومة نتنياهو منعًا للذهاب إلى انتخابات ثالثة يمكن أن ينتصر فيها الليكود ونتنياهو، ويمكن أن يشارك حزب العمل أو نواب من ائتلاف "أبيض أزرق" في حكومة الليكود تحت نفس السبب، أو بعد حرب يشنها نتنياهو ضد غزة، أو استجابة للإغراءات التي يقدمها الليكود لمن يمكّنه من تشكيل الحكومة مجددًا. ألم يعرض الليكود على حزب العمل خمس وزراء وهو له ستة نواب فقط؟
كما أن المرجعيات الدينية العليا لحزبي الحاريديم يهودوت هتوراه (8 مقاعد) وشاس (9 مقاعد) أصدرت فتوى لهما بالامتناع عن المشاركة في أي حكومة يشارك فيها يائير لابيد، رئيس حزب "يوجد مستقبل" والرجل الثاني في قائمة "أزرق أبيض"، وهو ما أكّده اليوم، تصريح زعيم "يهودوت هتوراة" في بيت رئيس الدولة بعد أن أوصى على نتنياهو بالقول "لقد أمضينا 4 أعوام، في إصلاح ما قام به لابيد".
هنا تجدر الإشارة إلى أن نتنياهو سوف يستميت على رئاسة الحكومة القادمة، لأن القانون الإسرائيلي الحالي يوفر لأي رئيس حكومة الحصانة، حتى لو وجه اتهام ضده، إذ يمكن له الاحتفاظ بمنصبه إلى حين صدور حكم المحكمة النهائي، في حين لا تتوفر هذه الحصانة لمن يشغل منصب وزير. ونقطة ضعف نتنياهو أنّ النائب العام الإسرائيلي يمكن أن يوجه لائحة اتهام له بعد عدة أسابيع من جلسة الاستجواب مطلع تشرين الأول القادم، ما يعطي لرئيس الدولة استخدام وجهة نظر قضائية بحيث لا يكلف نتنياهو بعد توجيه اتهام له، وهذا يمكن أن يُضعِف موقف نتنياهو، رغم أن المستشار القضائي للحكومة أبلغ رئيس الدولة بعدم وجود عائق قانوني حتى الآن أمام تكليف نتنياهو، كما أن معظم المؤشرات تشير إلى تمسك الليكود به، وخصوصًا أن البطاقة الانتخابية لليكود كانت تربط اسم الحزب برئيسه نتنتياهو، ما يعني أن التخلي عن نتنياهو خيانة لثقة الجمهور به.
أما إذا شكل نتنياهو حكومة يمينية متطرفة، فسيسعى فورًا لإقرار قانون يُحصّنه طالما هو في منصب رئيس الحكومة بغض النظر عن سريان تقديم الاتهام وحكم المحكمة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، من يوصي أو لا يوصي بتكليف غانتس سيكون مسؤولًا أخلاقيًا عما ستفعله حكومة وحدة برئاسة غانتس أو نتنياهو، وخصوصًا أنهما لا يختلفان فيما يتعلق بالموقف من الحقوق الوطنية للعرب، ولا يختلفان كثيرًا في العداء للعرب والاستجابة للحقوق المدنية، خصوصًا بعد إقرار قانون القومية الذي جعل العنصرية دستورًا، مع الإشارة إلى أن الذي صاغ مسودته يوعز هندل، القيادي في ائتلاف "أزرق أبيض".
من غير المناسب، إن لم نقل من المهين، التوصية بشخص لرئاسة الحكومة وهو يصرح علنًا أنه لم يطلب ذلك من القائمة المشتركة، وأنه لا يوافق على أي شروط تطلبها، وصرح قادة من قائمة "أبيض ازرق" بأن هذه التوصية ستضر غانتس، ولا يقلل من خطورة ذلك تلميح رئيس القائمة المشتركة بأن هناك وعودًا بتلبية بعض المطالب العربية، لأن لنا خبرة طويلة عريضة مع المواعيد والوعود غير المقدسة للإسرائيليين، حتى تلك التي وعد بها إسحاق رابين لم يفِ بها، وقال بأن "لا مواعيد مقدسة"، مع أنه يسمى "بطل السلام"، ومنحه العرب كتلة مانعة ليترأس الحكومة في العام 1992 بذريعة وجود أفق سياسي، مع أنه في الوقت الحالي لا يوجد أحد يدعي بوجود مثل ذلك الأفق، ومع ذلك تتم التوصية بغانتس.
كما أنه من المهين أيضًا أن توصي لمن تنحصر فرصته الوحيدة في تشكيل حكومة وحدة وطنية، أي مع الليكود بزعامة نتنياهو أو من دونه، مع أنه في هذه الحالة لن يستطيع تلبية ما وعد به، هذا إن كان يريد تلبيتها فعلًا.
نعم، من يريد أن يلعب اللعبة السياسية البرلمانية ضمن برلمان يمثل دولة استعمارية استيطانية عنصرية، المفروضة عليه، لا سيما في ضوء حالة الجزر التي تمر بها القضية الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية، وفي ظل فقدان الرؤية والإستراتيجية والقيادة الواحدة، عليه أن يكون مؤثرًا.
ومعيار التأثير أن تكون القائمة المشتركة قادرة على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه، من دون أن تفقد نفسها وما تملكه من أوراق قوة، أهمها وحدتها وثقة نصف مليون ناخب فلسطيني، ومصادرة إمكانيات تقدمها كقائمة تمثل القومية الفلسطينية حاضرًا ومستقبلًا. وإذا تصرفت على أساس أنها في جيب أحد، بغض النظر عما يقدمه أو لا يقدمه لها؛ سيعرضها هذا الأمر لفقدان التأثير المطلوب، وسيزعزع جبهتها الداخلية، ويقلل فرص بلورة المشروع الوطني، والأداة الوطنية، وتحقيق الحقوق القومية الفردية والجمعية، التي من دون الترابط ما بينها وبين الحقوق المدنية الفردية والجمعية لا يمكن تلبية نوعية لأي منهما.
إن التوصية لغانتس من معظم نواب القائمة المشتركة لا يضمن فوزه، بل قد يساعد على فوز نتنياهو في تشكيل الحكومة أو في انتخابات ثالثة، ما يعني تقديم تنازل كبير من دون مقابل، أو من دون مقابل يوازيه، أو من دون تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه.
للتوضيح: إذا كانت التوصية لغانتس يمكن أن تساهم في تحويل القائمة المشتركة لتصبح أقرب إلى حزب إسرائيلي ينافس على المصالح والحقوق المدنية بعيدًا عن الحقوق القومية الفردية والجمعية، فسيساهم ذلك بتحطيمها قبل أن يشتد عودها، خصوصًا أنها - حتى الآن - أقرب إلى قائمة انتخابات من كونها تحالفًا سياسيًا يستند إلى مشروع قومي ومدني ومؤسسة تمثل حقًا الفلسطينيين في الداخل، وتضمن التعددية والمشاركة والاختلاف والمنافسة حتى تجدد دماءها باستمرار، وتضمن تمثيلها للعرب لا استخدامهم لخدمة مصالح شخصية أو حزبية والتصرف نيابة عنهم.
ولمن يقول إن التوصية هي ما يريده الشعب أقول: لا ينفع قول الشيء ونقيضه حسب المقام، فالقيادة يختارها الشعب لكي تقوده لا أن تنقاد له.
وأخيرًا، أقول لمن سارع إلى الاحتفال بموت "صفقة ترامب" التي أميتت مرات عدة قبل ولادتها، أن "الصفقة" تطبق على الأرض، وتخلق واقعًا ستكرسه أي حكومة إسرائيلية قادمة، سواء أكانت حكومة وحدة وطنية برئاسة نتنياهو أم غيره من قادة الليكود، أم غانتس، حتى وإن تأخر إعلانها في حالة توجه إسرائيل إلى انتخابات ثالثة.
بل إن حكومة يرأسها غانتس يمكن أن تكون مناسبة أكثر لهذه الخطة/المؤامرة؛ لأن اليمين الأكثر تطرفًا، حليف نتنياهو، سيكون ضدها، في حين أن "أزرق أبيض" يمكنه خداع الفلسطينيين من خلال حديثه عن مسار التسوية واستئناف المفاوضات مع التمسك باللاءات الإسرائيلية المعروفة التي لا تتسع لأي حق من الحقوق الفلسطينية.
كما أن نتنياهو يقدم نفسه لجمهوره بأنه خير من يقدر على إقناع ترامب بألا تتضمن صفقته ما ترفضه إسرائيل، وأنه قادر على الوقوف ضده إذا حصل ذلك. ولعل تفسير ترامب لعدم اتصاله بنتنياهو بعد إعلان نتائج الانتخابات وقوله بأن أميركا ترتبط بإسرائيل وليست بشخص يؤكد ما ذهبنا إليه. فترامب يحضر نفسه لاحتمال خسارة نتنياهو، أما صفقته فيمكن أن تكون لها فرصة مع غانتس أفضل من نتنياهو.
إن طرح "الصفقة" مهما كان من يحكم إسرائيل هو سيناريو محتمل يجب أن يستعد له الفلسطينيون، وكل من يؤيد قضيتهم، لأن طرحها سيؤدي إما إلى رفضها، ما يستدعي عقوبات وإجراءات ضدهم، أو اتخاذ موقف (لعم) منها، بحجة الحصول على العسل الذي تحتويه وتجنب السم، مع أن الاثنين يقدمان في طبق واحد، وهذا إن حصل يجعل الصفقة أخطر، لأنها ستطبق في هذه الحالة بمشاركة أو تغطية ممن يفترض أنهم يمثلون القضية الفلسطينية.
لقد سبق أن حذرت في مقالي السابق من مغبة عدم الاتعاظ من تجربة أوسلو، وتقديم التنازلات الكبرى أولًا على أمل الحصول على مقابلها في النهاية أو بعد حين، وهذا أشبه بالحصول على شيك من دون رصيد، وتجريب المجرب الذي يدل على أن من يقوم به عقله مخرب.
بقلم/ هاني المصري