في مثل هذه الأيام قبل اثني عشر عاما رحل عن عالمنا قائد وطني كبير عندما نذكر اسمه نستحضر معه تاريخ شعب . انه الدكتور حيدر محيي الدين عبد الشافي . وعندما نقول ذلك ، فنحن لا تراودنا صناعة اللغة أو الكلمات ، فالراحل الجليل اكبر من ذلك بكثير . مع الراحل الكبير نستحضر تاريخ شعبنا العظيم . كيف لا وقد ولد الدكتور حيد عبد الشافي مع نهاية الحرب العالمية الأولى ، وفي لحظة من التاريخ كانت فيها بلاد الشام وغيرها من الأقطار العربية وكانت فيها درة بلاد الشام فلسطين تتعرض لمخطط استعماري لازالت شعوب المنطقة تعيش على وقع نتائجه وتداعياته .
الراحل الكبير حيدر عبد الشافي ولد في العام 1919 ، بعد عامين على اتفاقية سايكس – بيكو وعامين على وعد بلفور وقبل عامين من الانتداب البريطاني على فلسطين . ذلك يعني انه عاش طفولته الأولى وعاش سنوات شبابه الأولى في ظروف تركت تطوراتها بصمات واعية على حياته ، ودفعته الى معترك الحياة السياسية ومعترك النضال في وقت مبكر . قلة من شبابنا وشيوخنا يعرفون ان الظروف التي عاشها راحلنا الكبير في طفولته وسنوات شبابه الاولى دفعته للانخراط المبكر في العمل السياسي والنضالي الوطني . قسطنطين زريق كان من جيل العروبة ، الذي الهم الشباب حب الوطن والامة ، وكان من بين هؤلاء الشباب راحلنا الكبير حيدر عبد الشافي ، الذي بدأ حياته النضالية عضواً في جمعية العروة الوثقى وهو في بداية العشرينات من عمره ، يوم كان طالباً يدرس الطب في الجامعة الاميركية في بيروت .
في ظل الانتداب البريطاني وما حمله من مشروع استيطان وتهويد لوطننا الحبيب عاش حيدر عبد الشافي وقدم من موقعه كطبيب ومناضل ما استطاع في خدمة شعبه . وكان صاحب رؤية ، لم تأخذه السياسة بعيدا في البحث عن حلول لقضية شعبه هي اقرب الى الأحلام مهما كانت عظيمة منها الى الواقع مهما كان مؤلماً وقاسياً ، فكان من موقعه الديمقراطي التقدمي من بين أولئك الرواد ، الذين دعوا بعد صدور قرار التقسيم الجائر في التاسع والعشرين من نوفمبر 1947 الى عدم إضاعة الفرصة والى الإقبال على بناء دولة فلسطين وفقاً لذلك القرار ليوفر على شعبه التيه والمعاناة .
وتركت نكبة فلسطين عام 1948 أثرها العميق في فكر ووعي وممارسة الراحل الكبير . كان يتملكه قلق كبير على فقد الشعب لهويته الوطنية ، وتجلى ذلك بمسؤولية عالية في عديد المناسبات ، اذكر منها مناسبتين هامتين : الأولى عندما انتخب الدكتور حيدر عبد الشافي رئيساً للمجلس التشريعي المنتخب في قطاع غزه في عهد الإدارة المصرية في حزيران من العام 1962 . في حينه أعلن راحلنا الكبير :" أن مجلسنا التشريعي ليس من مهمته فقط ان يشكل لجاناً أو يقر قوانين تتعلق بالاعمار او الشؤون الادارية المختلفة ، بل ان مهمتنا تنحصر في الدرجة الاولى بالعمل على ابراز الكيان الفلسطيني حرصاً على وحدة شعبنا وصون هويته الوطنية التي باتت مهددة بالزوال " .
وأضاف يستبق إعلان الاستقلال الصادر عن مجلس الوطني الفلسطيني ، الذي انعقد في الجزائر عام 1988 : " حق العودة الى الجنسية الفلسطينية والاقامة الدائمة في القطاع حق أساسي من حقوق كل عربي فلسطيني أينما وجد " .
أما الثانية فقد كانت بعد ذلك بعامين ، أي في العام 1964 ، فقد كان راحلنا الكبير في مقدمة الصفوف في الاعلان عن ولادة منظمة التحرير الفلسطينية . ففي الثامن والعشرين من ايار 1964 انعقد المجلس الوطني الفلسطيني الاول في القدس وانتخب المرحوم احمد الشقيري رئيساً للمجلس واحتل حيدر عبد الشافي موقعة الطبيعي نائباً للرئيس . لم يتردد في خوض التجربة ، التي فتحت الآفاق رحبة أمام الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية ووضع حجر الأساس لبناء الكيان السياسي الوطني الفلسطيني ، رغم انه كان يدرك أن خطة النظام الرسمي العربية في حينه لم تكن بناء كيان سياسي سوف يتحول في سنوات معدودة الى ممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني ، يحافظ على هويته ويدافع عن حقوقه ومصالحه .
عاصر الراحل الكبير مختلف مراحل النضال الوطني ومحطاته ، وعاش في ظل الانتداب وفي ظل الإدارة المصرية للقطاع بعد النكبة ، وعاش معاناة شعبه في ظل الاحتلال بعد هزيمة حزيران 1967 وعاش في ظل السلطة الوطنية الفلسطينية . وكان صمام أمان لأهداف نضال شعبه ، لم يتخلى يوماً عن شعبه وقضيته، حتى عندما كان يأخذ دوره كمراقب للحدث ، لان حضوره التاريخي كان يلهم جيلاً بل أجيالاً نظرت اليه باعتباره ضميراً لشعبه .
عانى من الاحتلال وممارساته الارهابية ضد ابناء شعبه ولم يفقد يوما الايمان بعدالة قضيته الوطنية وحتمية النصر على الغزاة والمعتدين وانجاز الاستقلال وبناء الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وبحق شعبه اللاجيء في العودة الى دياره ،
وعانى من الإبعاد عن ارض الوطن ، ولم يكن من هواة او عشاق الغربة والاغتراب ، ما أن يغيب عن وطنه حتى يعود اليه يسهم في نضال أبنائه بالتزام وطني واضح ونزعة انسانية صادقة وفكر ديمقراطي مستنير منفتح على الجميع ، وممارسة رجل دولة يعلي شأن النظام والقانون والنزاهة والشفافية ويحط من شأن الفوضى والعبث بالنظام وسيادة القانون والفساد والفئوية . هذه مزايا نبيلة شهد له فيها الأعداء والأصدقاء ، من اتفق ومن اختلف معه في الرأي .
قاد وفد المفاوضات في محطات صعبة ، دافع عن مصالح الشعب وحقوقه وثوابته الوطنية ، وكان يرى في الاستيطان عدوه الرئيسي والحلقة المركزية ، التي ينبغي كسرها حتى تصل المفاوضات الى الهدف ، الذي يلبي مطالب وحقوق شعبه وأهداف نضاله الوطنية .
اختلف كغيره من المناضلين والوطنيين الفلسطينيين مع اتفاقيات أوسلو وعارضها ، ولم يمنعه ذلك من خوض التجربة في ظل هذه الاتفاقيات فحاز على ثقة مواطنيه في المجلس التشريعي الفلسطيني الأول . مضى يناضل من اجل إصلاح البيت الفلسطيني من الداخل سواء في منظمة التحرير الفلسطينية أم في السلطة الوطنية ومن اجل بناء نظام سياسي فلسطيني ديمقراطي تعددي تسوده العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ، يحترم التعددية السياسية والحزبية وينبذ الفئوية ، يرنو الى الاعتدال ويرفض التطرف ، يدعو الى النظام وسيادة القانون والشرعية الوطنية ويعارض اخذ القانون باليد وثقافة الانقلابات والممارسات العسكريتارية للانقلابيين التي تضرب وحدة الشعب والوطن والقضية في الصميم ، ويواصل الاسهام في الحياة السياسية من خلال تأسيس المبادرة الوطنية الفلسطينية وفي العمل الانساني والاجتماعي من خلال جمعية الهلال الاحمر الفلسطيني ، التي بناها ورعاها وقادها على امتداد سنوات طويلة
نستحضر تاريخ هذا القائد الكبير ، الذي رحل عنا في أيام الخريف الأولى من العام 2007 ، وما أكثر أيام الخريف السياسي في تاريخنا . حيدر عبد الشافي بتاريخه الحافل بالعطاء وبسيرته العطرة التي تميزت بالتواضع والاستقامة والنزاهة كان أولى من غيره بأمور كثيرة ، بما فيها أمور السياسة ، آثر في سنوات حياته الأخيرة وتحت ضغط المرض الانسحاب ، بعد أن اكتفى بدور المتابع الناصح وكأن الزمن قد نال منه ، فاستحق من أبناء شعبه كل الاحترام والتقدير والوفاء .
بقلم/ تيسير خالد