أحرجت نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التونسية غالبية أحزاب الطيف السياسي التونسي، حيث كانت أشبه بعاصفة سياسية ضربت الأحزاب، وخصوصا الكبرى منها الممثلة بكتل قوية في البرلمان، التي لم تخسر الانتخابات فحسب، بل جاءت نتائج بعض مرشحيها محبطة وكارثية، فسارعت إلى إعادة حساباتها وتغيير تكتيكاتها وشعاراتها في مسعى لاحتواء الارتدادات المحتملة لتلك النتائج على الانتخابات التشريعية، وسط حملات وأجواء تُنذر بمواجهات مفتوحة على كل الاحتمالات، وقد تفضي إلى كثير من المُتغيرات في الخارطة السياسية القائمة.
واتفق المراقبون على أنّ سوء إدارة الحكم للأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي يعيشها أغلب التونسيين، يُعدّ أحد أهم أسباب هزيمة تلك الأحزاب، فدفعت ثمن فشلها وأدائها وانشغالها بالحسابات والمكاسب السياسية على حساب مشاغل وهموم التونسيين الاقتصادية والاجتماعية، ما دفع الناخب لمنح ثقته إلى مرشّحين من خارج منظومة الحكم بمختلف أطيافها وتلاوينها، وخصوصاً الأحزاب التي كانت في صلب صناعة القرار السياسي والاقتصادي، فحمّلها مسؤولية هذا الفشل وعاقبها من خلال صندوق الاقتراع.
وأقرّ بعض مسؤولي تلك الأحزاب بأن نتائج الانتخابات عكست غضبا شعبيا من المنظومة الحاكمة لفائدة المستقلين. وقد حلّ أبرز مرشحي العائلة الوسطية الحداثية التي كانت منضوية في حزب «نداء تونس» قبل تشظيه وتفتته، في المركزين الرابع والخامس، وهما وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي بحصوله على 10.73 % من أصوات الناخبين، ورئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد بنسبة 7.3 %.
وعلى ذلك، تعالت الأصوات والدعوات من أجل توحيد صفوف الأحزاب الوسطية والديمقراطية استعداداً للانتخابات التشريعية، على أمل «تدارك الوضع ومنع انزلاق البلاد إلى المجهول»!. وفي هذا السياق، دعا الشاهد الزبيدي، إلى الحوار لتوحيد ما وصفه بـ«العائلة الوسطية التقدمية» في سبيل النجاح في تشكيل كتلة برلمانية قوية ومؤثرة، محذراً في الوقت نفسه من «خطورة دخول الانتخابات بشكل مُشتت»!، وهي الخشية التي رأى كثيرون أنها «مشروعة ومُثيرة لقلق مُختلف القوى السياسية».
اصطفافات الأحزاب
وفي ضوء ذلك، سارعت حركة «النهضة» الإسلامية التي جاء مرشحها عبدالفتاح مورو ثالثاً بنسبة 12,8 %، إلى الاصطفاف خلف قيس سعيد، بدعوى ضمانه الحد الأدنى من رؤيتها السياسية. كما أعلن دعمه لسعيّد كلٌّ من حمادي الجبالي، القيادي السابق في حركة «النهضة»، ومحمد عبو، رئيس حزب «التيار الديمقراطي»، ولطفي المرايحي، رئيس حزب «الاتحاد الشعبي الجمهوري»، والمنصف المرزوقي، رئيس حزب «حراك تونس الإرادة»، والمرشح الرئاسي عن ائتلاف «الكرامة» سيف الدين مخلوف (الأقرب إلى التيار السلفي).
ولا شك أنّ دعم هؤلاء جميعاً لسعيد المعروف بمواقفه المحافظة، قد يلعب دوراً كبيراً في ترجيح كفته خلال الجولة المقبلة، في وقت تجد الأحزاب والقوى الاجتماعية الأخرى حرجاً في إعلان دعمها لنبيل القروي، السجين المتهم بتبييض الأموال والتهرب الضريبي. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ ثمة عداءً قائماً بين حزب «تحيا تونس» بقيادة الشاهد، وحملة المرشح القروي التي اتهمت الشاهد بإيقاف القروي والزج به في السجن لإضعاف حظوظه الانتخابية.
وقال محللون إن هذه الأحزاب والمنظمات إذا أعلنت عن دعم القروي علناً، فإنها «ستجد نفسها في مرمى الاتهامات بمساندة منظومة الفساد... وإذا لم تدعمه فإنها ستجد حرجاً مضاعفاً في دعم سعيد المرشح الذي ينتمي إلى التيار المحافظ، بزعامة حركة (النهضة)، وهذا ما يجعل الأخيرة المستفيد الأول من ذلك»، وهو ما لا تسعى إليه الأحزاب الحداثية المعارضة للتيارات الإسلامية، والتي ترى أنّ المجموعات الداعمة لسعيد «تمثل خطراً على الجمهورية والانتقال السياسي في البلاد».
ووصف القروي منافسه سعيد، بـ«الإسلامي المحافظ»، في حين قدّم نفسه ممثلاً للمحور الحداثي الاجتماعي الليبرالي. وقال في حوار مع صحيفة فرنسية: إن «المعركة حاسمة اليوم بين محور إسلامي محافظ يمثله قيس سعيد والنهضة من جهة، ومحور حداثي اجتماعي ليبيرالي أمثّله أنا وحزب قلب تونس من جهة أخرى.. وعلى كل ناخب أن يختار معسكره».
وخلص محللون إلى القول: «على العموم تبدو العائلة الحداثية الوسطية منقسمة على نفسها في هذا الشأن أيضاً، فهناك من سيصوت للقروي وهناك من لن يفعل ذلك، على عكس الأحزاب والجماعات المؤيدة لسعيد»!.
سيناريو إعادة الانتخابات الرئاسية وارد!
طرح نجاح رجل الأعمال وقطب الإعلام في تونس نبيل القروي في المرور إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية العديد من الأسئلة القانونية والدستورية الصعبة، نظراً لوضعه رهن الاحتجاز في قضية لم يصدر بشأنها حكم بعد.
وقالت الهيئة العليا للانتخابات إن القروي يتمتع بكافة حقوقه كمرشح رئاسي، «طالما لم تصدر ضده أية أحكام قضائية». ومع ذلك رفض القضاء في وقت سابق طلب الإفراج عنه للمشاركة في الحملة الانتخابية.
ويسود اعتقاد واسع أنه في حال لم يتمّ إطلاق سراح القروي فسيطعن مباشرة في مصداقية الانتخابات، من منطلق «عدم تساوي الحظوظ والفرص بين المتنافسين». وفي هذا الشأن، قال أحد الخبراء القانونيين إن وضع المرشح السجين «يطرح مأزقاً قانونياً حقيقياً، ليس لها أي حلّ قانوني».
أما رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، نبيل بفون، فقال إن مصير المرشح السجين سيكون بيد البرلمان والقضاء في حال فوزه بالرئاسة. ولم يستبعد إعادة الانتخابات في ما لو فاز القروي ورفض القضاء إطلاق سراحه لأداء اليمين الدستورية. علماً أنّ الدستور التونسي ينصّ على ضرورة أن يؤدي رئيس الجمهورية المنتخب اليمين الدستورية أمام مجلس نواب الشعب (البرلمان).
أما في حال فوزه وتمكينه من أداء اليمين الدستورية وتقلدّه منصب رئيس الجمهورية، فإنه سيتمتع بحصانة رئاسية طيلة توليه الرئاسة، وتُعلَّق في حقه كافة الملاحقات القضائية، التي يمكن استئنافها بعد انتهاء مهامه وفق ما ينصّ عليه الدستور التونسي.
بقلم/ فيصل علوش