الحديث عن علاقة وعد بلفور والطائفية حديث يحتاج إلى سبر أعماق تاريخ الصراع، فالصراع بيننا وبين الغرب اليهودي الصليبي ليس وليد وعد بلفور أو غيره من الأحداث قريبة العهد ولكنه أعمق من ذلك بكثير، وسنبدأ من مرحلة تاريخية وسط: الحروب الصليبية لقد كانت الحروب الصليبية تجربة غنية بالدروس الاستراتيجية عن أسباب النصر والهزيمة لكلا الطرفين، ومما يؤسف له أن الغرب الصليبي قد أحسن دراسة التجربة والتعلم منها، في حين أن المسلمين انشغلوا في حروبهم ضد التتالر والماغول وبقياهم في وطننا، وضد بعضهم البعض ولم يحسنوا الحفاظ على الدروس التي تعلمها أسلافهم أثناء تلك الحروب وكانت سبباً في انتصارهم وهزيمة الصليبيين! مجمل تلك التجربة لخصها لويس التاسع بعد خروجه من الأسر في دار ابن لقمان في المنضورة، في التالي: "لنبدأ حرب الكلمة فهي وحدها القادرة على تمكيننا من هزيمة المسلمين .. أنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة بإتباع ما يلي: * إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين. * عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح. * إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء حتى تنفصل القاعدة عن القمة. * الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه يضحي في سبيل مبادئه. * العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة. * العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية في المنطقة العربية تمتد حتى تصل إلى الغرب. الفكرة نفسها أطلقها بعد أحداث 11 سبتمبر (دونالد رامسفيلد) وزير الحرب الأمريكي: لنبدأ حرب فكرية! وإن كان نابليون فشل في حملته على الشرق الإسلامي عسكرياً إلا أنه نجح إلى حد لا بأس به في تحقيق بعض الاختراقات على بعض الأصعدة منها زرع فكرة القومية والاختلافات العرقية وتمجيد الجاهليات قبل الإسلام، وفصل التشريع الإسلامي عن الحياة العامة في المجتمع، ولفت انتباه إلى أهمية موقع وطننا استراتيجياً للقوى الاحتلالية الغربية، وحاول تنفيذ وصية لويس التاسع بزرع قومية غريبة عن شعوب وطننا في فلسطين! وبعد أن غرر مستشار محمد علي باشا العسكري الفرنسي بالأخير ليتوسع باتجاه بلاد الشام وعاصمة دولة الخلافة، وتحرك خوف الغرب من قيام حاكم قوي يجدد شباب دولة الخلافة ويشكل خطراً على أطماعهم في وطننا، واجتمعت الدول الكبرى الخمس في لندن، أرسل روتشيلد رسالته إلى بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا محذرا فيها الغرب من عودة المسلمين لدينهم، ولضرورة إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين لشطر الأمة والوطن: "هناك قوة جذب بين العرب وعودة مجدهم المرهون بإمكانات اتصالهم واتحادهم، وأن فلسطين تعد الجسر الذي يصل بين مصر وبين العرب في آسيا، بوابة الشرق حيث يجب زرع قوة غريبة لتكون حاجزا"! ذلك وغيره من مخططات وتوصيات غربية كانت مجمل تقرير كامبل بنرمان (1907) وتوصيته العاجلة: "ضرورة فصل الجزء الإفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة إذ أن إقامة حاجز بشري قوي على الجسر الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر المتوسط بحيث يشكل من هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة".
وقد كان من الوسائل والسبل أيضاً: "العمل على إيجاد التفكيك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة لتلك الدول وخاضعة لسيطرتها وأوصى التقرير بشكل خاص على محاربة اتحاد هذه الجماهير العربية أو ارتباطها بأي نوع من أنواع الاتحاد الفكري أو الروحي أو التاريخي وبضرورة إيجاد الوسائل العلمية القوية لفصلها عن بعضها بعض ما استطاع الاستعمار إلى ذلك سبيلاً". وكانت البداية ضرب لتدمير وحدة الأمة تدمير النظام السياسي الذي يجمعها (الخلافة الإسلامية العثمانية)، والعمل بتوصية لورانس العرب التي أوصى بها في أحد تقاريره: "علينا أن ندفع بالغرب لانتزاع حقوقه من تركيا بطرق العنف .. لأننا بهذا نقضي على خطر الاسلام وندفع به - أي الإسلام - لإعلان الحرب على نفسه وبذلك نحرقه من القلب، إذ ينهض في مثل هذا الصراع خليفة في تركيا وخليفة في العالم العربي، ويخوض الخليقتان حربا دينية وبذلك يقضي على خطر الخلافة الإسلامية بصورة نهائية.."! فكانت ما يسمى بالثورة العربية الكبرى التي غررت بريطانيا فيها الشريف حسين وتلاعبت بطموحاته بإنشاء مملكة عربية تكون له ولأولاده من بعده، وانتهت طموحاته بتقطيع أوصال مملكته المنشودة وتقاسم أراضيها بين بريطانيا وفرنسا بحسب اتفاقية "سايكس_ بيكو" التي عقدت بينهما عام 1916م. ورد الجميل للعرب الذين تحالفوا معهم ضد إخوانهم من المسلمين بمنح اليهود "وعد بلفور" في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917م، الذي كان الخطوة الأولى عملياً لتحويل أمتنا إلى أمم وشعوب والشعوب إلى قبائل والقبائل إلى شيع وطوائف! تطابق المخططات اليهودية والغربية وحتى لا يواجه الكيان الصهيوني أي تهديد حقيقي بعد إنشائه، أصدر اليهودي (كادمي كوهين) عام 1939م كتاباً بعنوان "دولة إسرائيل"، يدعو فيه الغرب الصليبي لإبعاد الإسلام عن الصراع، وعدم تمكين شعوبه من النهضة ثانية واستعادة قوتها، وذلك بالإسراع بإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين. ودعم الحركة الصهيونية للقيام بدورها في المؤامرة العالمية على الإسلام قبل فوات الفرصة، وقبل أن تنفك المنطقة من عقال الاحتلالات الغربية، وتستعيد وحدتها ونهضتها من جديد في دولة واحدة تجمع كل الشعوب الإسلامية على اختلاف قومياتها وأعراقها وألوانها ولغاتها. وذلك بضرب القومية بالإسلام! ونظراً لخطورة ما جاء في هذا الكتاب من أفكار بخصوص المنطقة، هذه الأفكار التي نرى نتائجها ماثلة للعيان وواقعاً مشهوداً خاصة في الواقع السياسي العربي والإسلامي منذ ضياع فلسطين، ولازلنا نعاني من آثارها حتى اليوم، نقتطف منه بعض ما جاء فيه عن ضرورة اقتطاع فلسطين لاستمرار تجزئة وطننا، لمن يريد السيطرة على العالم القديم، وضرب الإسلام قبل نهوضه.
عن أهمية فلسطين بالنسبة لآسيا وأوروبا والتحذير من خطر استيقاظ شعوب المنطقة على السياسة العالمية وسرعة تقسيم الأمة إلى شعوب وقوميات، كتب: "إن الساحل الشرقي للبحر المتوسط يشكل بالنسبة لأوربا رأس جسر واسع نحو آسيا، وعلى طرفي هذا الإقليم الممتد من البحر المتوسط إلى جبال هملايا يتحرك شعبان (الشعب الهندي)، وفيه نسبة كبيرة من المسلمين في ذات الوقت و(الشعب المصري)، وفي الداخل تستيقظ الشعوب على الحياة السياسية العالمية". وبعد أن يحذر الغرب خاصة بريطانيا وفرنسا من تحرك تلك الشعوب التي بدأت فيها عملية البعث والثورة مثل أفغانستان وفلسطين وغيرهما، يوجه لهم النصيحة باتخاذ إجراءات من شأنها أن تعرقل تلك النهضة، أو توجه هذه الحركة التي بدأت إشعاعاتها تبشر بانتفاضات مقبلة، لأنه إن لم تفعل أوروبا ذلك فلن تتمكن من بسط الأمن والسلام في تلك المنطقة المهمة من العالم والغنية بثرواتها، ويذكر أن تلك المنطقة كانت مهد حضارات قديمة رائعة، وسرعان ما يكشف اللثام عن مصدر خوفه وقلقه الحقيقي عندما: "إن فرنسا مثل إنجلترا إنهما تواجهان قوتان إسلاميتان كبيرتان تصدمان بهما حيث توجد مشكلة عربية، نقول مشكلة إسلامية، هذا هو الجانب الثاني للمسألة الشرقية الجديدة".
وبعد أن يذكر في سطور كيف استطاع الإسلام أن يوحد القوميات المختلفة في أمة إسلامية واحدة يسارع إلى تقديم وصفته الناجعة للغرب الصليبي بعدم تكرار ذلك: "وإذا أرادت السياسة الأوروبية أن تتحرر من العقبات الكئود التي ترهق مستعمراتها ينبغي عليها أن تسعى لتفكيك هذه الهوية المصطنعة التي تتحرك ضدها: هوية بين المفاهيم (العربية) والمفهوم (الإسلامي) وعندما تجرأ على حل المسألة العربية فإنها تحطم آلية التشابك الموجود بين المفهومين وتفتت الوحدة الإسلامية كما أن القوميات الاستعمارية الأوروبية تؤمن بهذا هدوء لم تعرفه منذ أمد طويل. إن نظرية الوحدة العربية هي خير علاج وأفضل ترياق ضد الوحدة الإسلامية فهي لا تشكل خطراً أكثر مما تشكله القومية التركية الحالية، إذ عندما تنصرف عن الدعوة إلى المشاعر الدينية ولأنها هي على العكس تشكل عرقية أساسية تصبح عنصراً صحيحاً للتوازن السياسي في العالم القديم. إن تفتيت الهوية التي تجمع بين الإسلام والعروبة هو القادر على جعل الضفة الشرقية للبحر المتوسط ما يجب أن تكون في الحقيقة. واجهة القارة الآسيوية التي تطل على العالم الغربي ورأس جسر لأوربا نحو آسيا الكبرى.
إن الوحدة العربية تصبح قادرة على مقاومة الوحدة الإسلامية إذا ما نظمت سياسياً فإيقاظ الشعور القومي العربي هو الذي ولد الإيمان الجديد عند العرب بتشكيل الأمة الإسلامية. إن القومية الإسلامية تتفوق على الفكرة العائلية وعلى العصبية العشائرية أو القبلية التي كانت معروفة لحد الآن، فإذا ما تراجع الغرب أمام تلك الديانة الجديدة وإذا ما أقره أكد على وجود قومية عربية تمتد من البحر المتوسط، وحتى بلاد فارس قومية مختلفة في جوهر تحديدها على التتر والهندوس والبربر، فإنه يحرر بذلك قوة هائلة إذا ما تأطرت بشكل مناسب استطاعت أن تلعب دوراً في العالم المتمدن تؤهلها له أصالتها الرفيعة". وهو لا يترك للغرب فرصة الغفلة أو التهاون أو الاتكال على أعوانهم من أبناء أمة الإسلام ولكنه يدعوه ليتولى بنفسه تنظيم وطننا: "من أجل أن نتجنب هذا الاحتمال المرعب الذي ينطوي على أخطار جسيمة مجهولة ينبغي على العالم المتمدن أن يتولى بنفسه تنظيم العالم العربي كي يجعل منه عاملاً سياسياً نافعاً وليس عامل فوضى".
... يُتبع
التاريخ: 2/11/2019
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت