في عملية تتشابك فيها السياسة الإسرائيلية الخارجية والأمنية، بالسياسة الحزبية الداخلية المرتبطة بسيناريوهات الحكومة المقبلة والأزمة التي تعترض تشكيلها، تبدو الصورة التي كررت بثها وسائل الإعلام الإسرائيلية المرئية ويظهر فيها طاقم المشتركة يتوسطهم النائب أيمن عودة، وهو يحمل مسبحة يمرر خرزاتها بين أصابعه مسبحا بحمد الله، الأكثر تعبيرا عن تشييع خيار الحكومة الضيقة برئاسة بيني غانتس، وبدعم النواب العرب من الخارج، إلى مثواها الأخير.
لقد استعاد بنيامين نتنياهو، باغتيال القائد العسكري في حركة "الجهاد الإسلامي" بهاء أبو العطا، زمام المبادرة السياسي، وذلك في أواخر أيام المهلة الزمنية الممنوحة لغانتس لتشكيل الحكومة، وأسقط من يديه خيار التلويح بحكومة ضيقة مدعومة من العرب، بعد أن أعاد توضيح الرؤية الإسرائيلية وأعاد تعريف "معسكر الأصدقاء" الذي يقع في صلبه حزب الجنرالات ("كاحول لافان") و"معسكر الأعداء" الذي يتذيله النواب العرب.
ولكي لا "نظلم" نتنياهو، جريا على عادة المحللين الذين يعزون جميع إنجازاته العسكرية والسياسية والاقتصادية إلى دوافع ودواع شخصية، ومع علمنا بأن الرجل يسعى بكل ما أوتي من ذكاء ودهاء وقدرة سياسية على النجاة بنفسه وبحكمه من حكم القضاء "المبرم"، فإن ذلك لا يقزم الأهداف العسكرية للعملية الإسرائيلية التي استهدفت أحد قادة الصف العسكري الأول للجهاد الإسلامي، وتزامنت مع استهداف قائد آخر للتنظيم ذاته في دمشق، نجا من الاغتيال فيما استشهد نجله في العملية، وهي أهداف تحظى بإجماع إسرائيلي، وتندرج ضمن تصفية رؤوس المقاومة المسلحة، ممن يقعون تحت "الرادار" الإسرائيلي، مثلما جرى في حالة أحمد الجعبري وعماد مغنية وغيرهم من القادة.
كذلك لا يقزم، أيضا، من الأهداف السياسية للعملية التي تبتغي عزل الجهاد الإسلامي وتمييزه عن حركة "حماس"، من خلال استهدافه دون غيره، بغية فرملة تعاظم قوته العسكرية والسياسية، وضرب الأسافين السياسية بوحدة الصف الفلسطيني المقاوم في القطاع.
في هذا النطاق، يمكن إدراج ألاعيب نتنياهو السياسية ضمن التكتيكات العسكرية التي لا تمس بالإطار الإستراتيجي، بمعنى استدعاء التوتر العسكري في فترات سياسية معينة، والتغاضي عن أمور معينة لمنع التوتر في فترات أخرى، أو "اللعب على جميع الجبهات"، بمعنى إعطاء الأولوية لجبهة الشمال على الجنوب أو العكس لاعتبارات سياسية حزبية أو انتخابية أو حتى شخصية في بعض الحالات.
وقد رأينا كيف امتنع عن الرد على الرشقات الصاروخية التي استهدفت تل أبيب عندما كان أفيغدور ليبرمان وزيرا للأمن، ليمنع الأخير من حصد النتائج السياسية، ثم تذرع بوجود "حالة أمنية" هي على حافة الحرب في "الجبهة الشمالية" لمنع إجراء انتخابات أرادها ليبرمان، وكيف سقطت هذه الحجة وتلك الحالة عندما أراد هو الانتخابات.
لكن بين تلك الأحابيل وبين القول إن "نتنياهو يقامر بأمن إسرائيل وسكان المناطق الحدودية خدمة لمصالحه الحزبية والشخصية" مسافة كبيرة، سكان "سديروت" في الجنوب وسكان كريات شمونة في الشمال ما زالوا يؤيدون نتنياهو حتى لو سقط عليهم ألف صاروخ في اليوم، ويصوتون له لو اصطف طابور من الجنرالات في حزب واحد، كما هو الحال " كاحول لفان" أيضا.
لقد بنى نتنياهو مجده السياسي على "الأمن" فهو بنظر الإسرائيليين، الشخص الذي أسقط من أسماهم بـ "مجرمي أوسلو" الذين جلبوا "عرفات وزمرته" إلى الساحة الخلفية لإسرائيل، وهو الذي عارض شارون الذي "أنشأ" دولة حماس التي تسقط صواريخها على تل أبيب اليوم، وهو من أسقطه براك عام 1999 تحت وعد الخروج من الوحل اللبناني، ومكن "حزب الله" من النصر، والتحول إلى قوة ضاربة تهدد أمن إسرائيل.
بهذه الصفة، ضمن نتنياهو لنفسه مساحة زمن طويلة في السياسة الإسرائيلية، وركنا هاما في تاريخها، وهو إذ يحاول اليوم الهروب من الغرفة التي يعدونها له في سجونها، ويبدو أنه نجح بعملية التصعيد الأخيرة في خلق الأجواء التي ستنزل خصومه عن الشجرة التي تسلقوها، وتدفع باتجاه حكومة وحدة صهيونية برئاسته أولا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت