منذ أن خرجت قوات م ت ف من لبنان عام 1982 ، وتباعدت خيوط الإشتباك المباشر مع الكيان الصهيوني حاولت الثورة الفلسطينية، والمقاومة من استمرار حالة الإشتباك وإدامتها مع العدو بكل الأشكال والأدوات والوسائل، للحفاظ على مفهوم الصراع والتأكيد على الحق الثابت الذي لا يمكن تجاوزه أو تناسيه أوتجاهله، سواء عبر عمليات عسكرية من الخارج أو الداخل أو عبر المقاومة بالوسائل الشعبية كالمظاهرات، والانتفاضات الشعبية، حتى عادت قوات م ت ف وحركة فتح إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر اتفاق أوسلو عام 1994، وبسط السلطة الفلسطينية شكلًا ونوعًا من السيادة على بعض الأجزاء والمناطق التي اسنحبت منها قوات الاحتلال الصهيوني، إلَّا أنّ حالة الإشتباك لم تنتهِ أو تتناسى بل كانت مستمرة ودائمة سواء بمقاومة مصادرة الأراضي والاعتصامات أو المظاهرات الاحتجاجية أو عبر المواجهة السياسية أو عبر الانتفاضات مثل انتفاضة النفق عام 1996، أو العمليات العسكرية الاستشهادية وغيرها، حتى توجت بانتفاضة عام 200 التي أعادت حالة الإشتباك بشكل شمولي وواسع عسكريًا، وشعبيًا، وسياسيًا، انسحب خلالها العدو الصهيوني من غزة عام 2005، ومحاولة فض الإشتباك المباشر مع غزة والشعب الفلسطيني إلَّا أنه لم ينجح بذلك بل استمرت شذوة الإشتباك، وفشل العدو في إنهائها.
انتخابات المجلس التشريعي عام 2006: جاءت مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية عام 2006 والتي على أثرها أحدثت انقسام فلسطيني- فلسطيني، وتفرد حركة فتح والسلطة الفلسطينية بالضفة الغربية، وتفرد حركة حناس بقطاع غزة، وانقسمت الجغرافيا الفلسطينية وهي الحالة التي حاول العدو الصهيوني استغلالها واستثمارها للتفرد والإستفراد بالكل الفلسطيني المجزأ من خلال ممارسة سياسات محددة في كل شطر من شطري الوطن، إلَّا أنّ هذه السياسات لم تنجحَ، ولم تفلح في فض حالة الإشتباك وتدجين الثابت الفلسطيني المتفق عليه بديهيًا وضمنيًا (الإشتباك) وإن اختلفت أشكالها إلَّا أنها اتفقت على مبدأ واحد يدمومة حالة (الإشتباك) فالضفة الغربية مارست المقاومة الشعبية، وقاومت التغول الإستيطاني، والإعتداء على الأراضي الفلسطينية، وفي غزة فكانت حالة الإشتباك أكثر اشتعالًا وشدة من خلال المواجهات العسكرية، وشن الحروب والاغتيالات، وتدمير البنى التحتية الفلسطينية والحصار الدائم والقاسي حتى حرب عام 2014، ومن ثم انتهاج شكل آخر من الإشتباك عبر ما أطلق عليه (مسيرات العودة) الإسبوعية، وبعض جولات القصف بالطائرات والصواريخ.
اغتيال بهاء أبو العطا: منذ حرب عام 2014 وتوصل الأطراف الفلسطينية مع دولة الإحتلال لتفاهمات تقتضي انهاء سياسة الإغتيالات، والمناوشات مستمرة حتى أعلنت دولة الإحتلال العودة لسياسة الإغتيالات في الثاني عشر من نوفمبر 2019 باغتيال القائد العسكري بسريا القدس جناح حركة الجهاد الإسلامي العسكري قامت الطائرات الصهيونية باغتيال أبو العطا وهو ما دفع حركة الجهاد الإسلامي بالرد المباشر بقصف المدن الصهيونية، والتي بموجبها قصفت الطائرات الصهويني منازل المواطنين المدنيين، وتحديد حركة الجهاد الإسلامي كهدف رئيسي لهذه المعركة، وهو التحديد الذي أراد من خلاله نتنياهو رئيس وزراء دولة الكيان بانتهاج استراتيجية وتكتيك جديد مع فصائل المقاومة الفلسطينية يتخلص بالتالي:
أولًا: اختيار هدفين في غزة وسوريا لحركة الجهاد الإسلامي أيّ التفرد بحركة الجهاد الإسلامي كما فعلت سياسيًا مع حركة فتح والدول العربية في اتفاقيات السلام بمبدأ فرق تسد.
ثانيًا: عزل حركة حماس (حزب السلطة) وكتائب عز الدين القسام عن المعركة حتى عدم اطالة المعركة، وعدم الذهاب لمعركة طويلة وشاملة تعمق من أزماته الداخلية.
ثالثًا: تصدير الأزمة السياسية والشخصية لرئيس الوزراء نتنياهو بالتقدم خطة للأمام تحقق له نصر مؤقت أمام الرأي العام الصهيوني، وتحسن من صورته المأزومة التي لم ينجح بجولتين انتخابتيين بالنجاح وتشكيل حكومة، والتحضير لجولة ثالثة عبر معركة خاطفة مع حركة الجهاد الإسلامي.
وعليه فقد نفذ عملية الإغتيال في هذا التوقيت لتخدم مصالحه السياسية وهو ما أكده مطالباته للهدنة بسرعة، ودفع الوسطاء(مصر) للتحرك للضغط على حركة الجهاد الإسلامي، بل وطالب حركة حماس بمنع اطلاق الصواريخ من غزة، وعندما تحدث عن بنك الأهداف الصهيونية حصر هذا البنك في حركة الجهاد الإسلامي فقط، ولم يتحدث عن بنك أهداف فلسطينية، كما أنه لم يقصف أو يضرب أي مؤسسة عامة أو مواقع لفصائل أخرى بل حصر مواقع حركة الجهاد حتى لا يدفع حركة حماس وكتائب القسام لردات فعل ومن ثم الإشتراك بالمعركة، وعليه فهو قد وضع حركة الجهاد الإسلامي بين رحى الطاحونة الصهيونية، والضغوط الداخلية فوضعها تواجه عناصرها ووحدتها الداخلية وكادرها الذين لن يتنازلوا عن الرد والثأر لقائدهم أبو العطا، وعزل حركة الجهاد الإسلامي في معركة لوحدها دون حليفها القوي حماس، ووضع الجهاد في فوهة الغضب الجماهيري الفلسطيني من الخسائر البشرية وغير البشرية الناتجه عن جرائمه العدوانية ضد المواطنين، ومراهنة على عدم صمت حماس وضغطها على حركة الجهاد الإسلامي وربما يحدث مواجهة بينهما. ومن ناحية أخرى وضع حركة الجهاد الإسلامي بواجهة الضغوطات المصرية والإقليمية، وهو يدرك أن الضغوط على حركة الجهاد ستدفع قيادة الحركة للخضوع.
إذن فالتكتيك الإستراتيجي لعملية اغتيال بهاء أبو العطا كان هروبًا خطوة للأمام من قبل نتنياهو من الأزمات التي يتعرض لها داخليًا والتي تعرضه للخروج من الحكم ومن ثم محاكمته بتهم الرشاوي والفساد، وخلق حالة إشتباك بين حركة حماس وحلفاؤها وخاصة حماس والقوى الإقليمية (مصر) وجماهير شعبنا.
شروط زياد النخالة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي: في اليوم الثاني للعدوان الصهيوني على غزة، والمعركة التي يخوضها الجهاد الإسلامي والمقاومين الفلسطينيين، والقدرة والكفاءة من مقاتلي سرايا القدس بإدارة المعركة، وفي ظل الضغوطات الكبيرة التي تتعرض لها القيادة السياسية لحركة الجهاد الإسلامي التي تخوض معركة منفردة، خرج الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة بشروط ثلاث هي:
أولًا: رفع الحصار عن قطاع غزة؛ وهو أحد الإشتراطات الرئيسية بمطالب الكل الفلسطيني، ورفع المعاناة عن المواطن الفلسطيني.
ثانيًا: وقف الإغتيالات؛ وهو الشرط الذي يعتبر مطلبًا للجميع ولكل القوى الفلسطينية، وبذلك يكون قد صدر بعض الضغوطات للفصائل الفلسطينية عامة وحركة حماس خاصة.
ثالثًا: وقف الإعتداءات على مسيرات العودة الإسبوعية؛ وهو الشرط الأكثر فطنة وذكاء، وأكثر حنكة بما أنه على قناعة بأن العدو الصهيوني لن يصمت أمام مسيرات العودة والمتظاهرين الفلسطينيين، وعليه ترك الباب مفتوحًا للمقاومة الفلسطينية في حق الرد على أي اختراق لذلك، ووضع نتنياهو ودولة الكيان في مأزق امام الوسيط وأمام الرأي العام العالمي، وصدر له أزمة جديدة.
إذن فقد وضع الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي بهذه الإشتراطات التي كانت في قمة الذكاء السياسي سواء بتوقيتها أو بأبعادها البعيدة الجميع أما مسؤولياته من خلال:
أولًا: رمى بالكرة في الملعب الصهيوني ورئيس الوزراء نتنياهو وزاد من عمق أزمته الداخلية أمام الناخب الصهيوني، ورد محاولته التقدم لخطوة للأمام لخطوات للخلف.
ثانيًا: نقل الضغوط الإقليمية (مصر) والتي تمارس بقوة ضد الحركة وقيادتها إلى الضغط على رئيس الوزراء الصهيوني، وتعريته أمام الوسطاء والرأي العام الدولي.
ثالثًا: وضع الفصائل الفلسطينية عامة وحركة حماس خاصة في مأزق أمام عناصرها وأمام جماهير شعبنا من خلال التأكيد على خوض حركة الجهاد الإسلامي للمعركة وحدها، وفض يدها من الدم الفلسطيني وانتهاك الجغرافيا التي تسيطر عليها.
رابعًا: قدم حركة الجهاد الإسلامي بالحريصة والأمينة على الشعب الفلسطيني وأمنه وحياته، وحرص الحركة على التخفيف من حجم الخسائر، وهو ما وجد صداه الإيجابي لدى قطاع عريض من ابناء شعبنا، وعزز من صورة حركة الجهاد الإسلامي كحركة وطنية حريصة على الدم الفلسطيني.
خامسًا: جنب الحركة معركة قاسية جهز لها العدو الصهيوني لتدمير بنى الحركة العسكرية وقدراتها العسكرية، واضعافها وإلحاق خسائر فادحة بها تحتاج لسنوات طويلة لإعادة بنائها، وكذلك وضع كادره وعناصره أمام المشهد بأن الحركة تخوض معركة منفردة تخلى الجميع عنها بها.
سادسًا: ترك الباب مشرعًا ومواربًا أمام رد فعل منفرد وحق غير منظم للرد، دون أن تكون الحركة كمنظومة وقيادة مسؤولة أمام الرأي العام المحلي والإقليمي عن ذلك وتبرئة ساحتها، من مركزية القرار بالرد وخوض المعركة وعلى الوسطاء وحركة حماس الاجتهاد في لجم هذه الردود مما يعرض الحركة (حماس) لمواجهة مع المقاومين، ومع شعبنا بأنها تلاحق المقاومين كما فعلت هي بعهد السلطة الفلسطينية.
الكثير من الآراء التي وجدت بقبول الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي بالهدنة وفق الشروط الثلاث سالفة الذكر ضعفًا وخضوعًا، وأن هذه الشروط لا تلبي حجم التضحيات، ولكن أصحاب هذه الآراء وإن كانت لهم مبرراتهم لم يتعمقوا بحجم التعقيدات والتشابكات أو الأهداف العميقة التي خطط لها نتنياهو من عملية اغتيال القائد أبو العطا، وهي أهداف متعددة ومتنوعة لم تتوقف على مستوى أزمات نتنياهو الداخلية فقط وتحقيق نصر سريع أمام الرأي العام الصهيوني، بل أيضًا كان من ضمنها رأس حركة الجهاد الإسلامي، وخلق حالة إشتباك بينها وبين حركة حماس في غزة تفض الحلف المقاوم بينهما، وكذلك تدمير البنى التحتية لحركة الجهاد الإسلامي، وترسيخ عقيدة جديدة في مواجهات العدو مع فصائل غزة تستند للتفرد وهو يدرك أن هذه الجولة لن تكون الأخيرة مع الفصائل ومع الشعب الفلسطيني.
فإن كانت حركة الجهاد الإسلامي بذراعها العسكري قد خاضت المعركة بحنكة عسكرية، وكفاءة كبير، وتحكم بسير المعركة، فإن القيادة السياسية للحركة استطاعت أن تقود المعركة بقدرة وكفاءة كبيرة وليونة مكنتها من فهم طبيعة العدوان وخفايا نتنياهو ومخططاته، والقدرة على الخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر مما يؤكد أن الحركة قد استفادت من تجاربها السابقة، وامتلكت الوعي العميق للتعامل مع هذه الأزمة.
د. سامي محمد الأخرس
الخامس عشر من نوفمبر (تشرين ثان)2019
samiakras@gmail .com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت