"المثاليون" عبر التاريخ هم دوجماتيون حرفيون متصلبون في نظرتهم يريدون كل شيء بمقدار محدد للوصول للمثالية، ورغم صعوبة ذلك إلا أنهم مطلقون في أحكامهم على الإنسان الذي لا يوجد على الأرض بل يوجد في اليوتوبيا، أما الفئويون المتحزبون فهم خطرون لإنهم موجودون بكثرة على الأرض. منذ ثلاثة عقود أو أكثر يعودني سؤال، لماذا نحن فئويون ؟ يغيب السؤال في زحمة الإنشغال الحياتي، والسياسي، ومن ثم يعود إلى الذهن في لحظات التأزم الفلسطيني، وما أكثرها، وتمر السنون دون بلورة إجابة مقنعة لديٌَ على هذا السؤال، وتكبر التجربة، وتتوسع الثقافة، وتزداد الأزمات، والإخفاقات السياسية، وتنتكس الأوضاع الفلسطينية، وتصل لحدود من التراجع غير مسبوقة، ونبتلي بالإنقسام العمودي، والأفقي، المدمر قبل التحرر، ويتبدد النظام السياسي، وتصادر القدس، وتضيع الأرض، وينكشف الغطاء عن عقم الإنجاز، فتذهب ريحنا، ولم نعد قادرين على الوحدة التي كانت سابقا، ولو بحدودها الدنيا.
تسقط أعمدة حاملة لسقف وحدتنا، كشعب، وفصائل، بنظام سياسي هش بني على آفاق ضيقة لمتحزبين، وليسوا سياسيين ممن يلعبون بالبيضة، والحجر لصالح أوطانهم وشعوبهم، كما كل الشعوب وطبقتها السياسية، التي لا تخلوا من أذكياء مبدعين أحرار العقل، وطليقي التحليق في سماء السياسة. إنها التحزبية التي تضيق الآفاق، وتحصر الفكر، فتصبح السياسة في فلسطين تياسة، كما قالوها وسمعناها من الأولين من المواطنين العاديين، غير المثقفين، وغير السياسيين، في تهكمهم على من يعملون في السياسة.
السياسة في بلدنا هل هي تياسةفعلا؟ والتياسة تعني ضيق الأفق، وضيق الأفق، هو الفئوية، والفئوية، هي التحزبية، وهناك فرق بين الحزبية، والتحزبية. الحزبية هي التي يمارسها غالبية السياسيين عند الشعوب الآخرى، وليس جميعهم في كل بقاع الدنيا طبعا، ولعل منهم من أقربهم جغرافيا، وهم من بيننا وبينهم الحيط، أعني إسرائيل، يعملون بروح أخرى، تحمل، وتقدم مفهوم خدمة الوطن أولا، وليس الحزب رغم وجود التحزبيون الفئويون، فلا تغلق العقول وتحتد في كل وقت وكل محطة من أجل الحزب، ولذلك حافظوا على الكيان رغم كل الصعوبات، أما. نحن الفلسطينيون فالتحزب كان ومازال اغلاق، وانغلاق، ومغالاة، وإحتداد غير مبرر لفئوية الحزب في قضايا الوطن الحساسة كما هو حادث منذ إثني عشر عاما من الأنقسام وهو موضوع وطني جامع في أضراره قبل الحزب وقبل الفصيل، وهذا ضيق أفق حقيقة، وفئوية بغيضة، و بالضبط هي تياسة، فكأننا قبائل أيديولوجية فعلا، تنتعش بتواصل عجيب عبر الزمن وتتجدد دون إنجاز، فالعمل السياسي والوطني بالذات ليس قبليا أو عشائريا، فهو ببساطة إسمه وطنيا يعني أنه يحتوي مصلحة الجميع. تاريخيا الوضع الفلسطيني بني على تاريخ ومفاصل ومحطات، فهل كان لهذه المحطات أثرا على ما يجب أن نرفضه من أشكال التحزبيةالسياسية الخطرة والعمياء أو التياسة الفئوية الفلسطينية؟ تعالوا نفهم الظروف لنجيب، وكيف نبتعد عن التياسة السياسية.
الإسلاميون والشيوعيون بحكم الأيديولوجيا بشكل خاص التي هي تربة خصبة للتحزبية الفئوية، بمعنى إعلاء الأنا والحزب، فالحتميات الماركسية والمسلمات الأسلامية هي تربة الفئوية وحب الذات والحزب بشكل حدي يرفض في الأصل الآخر ، وهي صفة أصيلة في تلك الأحزاب، نتجت عند الشيوعيين عن إمتلاك الحقيقة سواء من ديكتاتورية البروليتارية ونظريات تفسير العلوم والأحداث عبر المادية الجدلية والمادية التاريخية، فكانت الأحزاب الماركسية واللينينيية والاشتراكية وحتى الإجتماعية والعلمانية وأخيرا خلطوها بالليبرالية وكلها محاولات إصلاحية نتجت عن الفئوية أصلا، التي لا تقبل الآخر، أو الفئوية التي لا تقبل الآخر عند الإسلاميين من إرتباط الفكر بالسماء غير القابل للقسمة على الآخرين غير الإسلاميين ولذلك تحمل الأحزاب الاسلامية في مجموعها الدعوة في باطنها والدعوة والتبشير كما في المسيحية أيضا، ولكن حديثنا هنا خاص عن فلسطين التي لم تظهر بها أحزاب مسيحية، والدعوة هي ركيزة أساسية لا تنشأ الأحزاب الإسلامية بدونها، ولذلك كانت ولا زالت تظهر حركات التصحيح على مدى تاريخها فالاسلاميين مبكرا وإلى الآن تتابعت الفرق الصوفية والمعتزلة والشيعة والسنة وكثير من الفرق قديما وحديثا القاعدة وداعش والتكفير والهجرة والبحث عن الحقيقة الغائبة التي يختلفون عليها.
في الإطار العام وليس الخاص المسيحية التحزبية للأحزاب المسيحية موجودة على مر تاريخها وللإشارة لفئويتها التي لا تقبل الآخر تميزت بتعداد الكنائس والخلاف الجاري منذ النشأة على الوحدانية والتثليث رغم تبني كثير من تلك الأحزاب المسيحية الليبرالية في أغلبها، لكنها تبقي تحزبية بمسحة دينية مرتبطة بالسماء فلا نقاش، وقلنا لن نتعمق في التحزبية المسيحية لعدم وجود أحزاب مسيحية في فلسطين، ولكنها في الإطار العام تحمل التبشير كما الدعوة عند الإسلاميين وديكتاتورية البروليارية عن الشيوعيين وكلها نماذج للأيديولوجيا التحزبية الفئوية ولذلك تتشابه في نموذج الفئوية او التحزبية الخطرة في الاستحواذ والتمييز.
نعود لموضوعنا التحزبية الفئوية في فلسطين لنأتي على تجربة فتح التي بإختصار إنطلقت في بيئة تحمل الفئوية والتحزبية للشيوعيين والاسلاميين والعائلية الفئوية التحزبية لأحزاب الحسيني والنشاشيبي ، ولم تستطع فتح العسكرية النشأة من تبرير التشابه في الفئوية التحزبية التي إجتاحتها رويدا رويدا وهي تنظيم أو حزب ليس أيديولوجي وخاصة في السنوات الأخيرة التي بدأت السياسة تتغلب على العسكر، فرأينا في فتح التحزبية تعلوها وتغزوها حتى بتنا في مجتمع لا يوجد به سياسيين حقيقة، بل يغلب على أحزابه وفصائله التحزبية الفئوية، وهذه التحزبية الشاملة تلتقي مع العائلية الفئوية في لحظات إنحطاط وتراجع شعبية الأحزاب والفصائل، كما نحن فيه اليوم، ولذلك، وبسبب تلك الفئوية كما نلاحظ استمر الإنقسام إثني عشر عاما لا يفهم غموضه إلا من خلال الإشارة بالتأكيد على خطورة التحزبية والفئوية المقيتة التي تزدهر في مجتمعنا وأحزابنا وفصائلنا. التحزبية الفئوية تتجلى هنا في فلسطين في ترك مصلحة الوطن وباقي الشعب والمواطنين وبشكل دموي أحيانا وبشكل واضح وصارخ وخطير لنيل المصالح الحزبية والانحياز لها ولو على دمار الوطن وأجياله وقضيته الوطنية. السياسيون الأحرار والأذكى من المتحزبين الفئويين، منقرضون في مجتمعنا، ولذلك نحتاج وقت طويل للخروج من المأزق، ففي فلسطين متحزبون لا سياسيين.
د. طلال الشريف
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت