بالرغم من وقاحة واستفزاز تصريح وزير الخارجية الأمريكية جورج بومبيو يوم أمس الثامن عشر من نوفمبر حول شرعية المستوطنات والاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية ،إلا إن هذه الخطوة لم تخرج عن سياق السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي منذ بداية الصراع ،والجديد أن إدارة ترامب استقطعت الأقنعة وقررت أن تشتغل على المكشوف ،وبالتالي فالقرار حول الاستيطان كاشف للسياسة الامريكية وليس منشئا لها .
عندما تقول واشنطن بشرعية الاستيطان فهذا معناه شرعية الاحتلال لأن المستوطنات الصهيونية تقام على أراضي فلسطينية تعترف الشرعية والقرارات الدولية بما فيها قرارات صادرة عن مجلس الأمن بأنها أراضي محتلة .وهنا جوهر الموضوع وهو أن واشنطن لا تعترف بالشرعية الدولية التي أسسها النظام الدولي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولا تعترف بقرارات الأمم المتحدة المؤَسَسة على هذه الشرعية ،وبناءً عليه لا تعترف بأن الضفة الغربية أراضي فلسطينية محتلة كما تقول قرارات الشرعية الدولية ،بل تنظر لها كأراضي متنازع عليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين .
القرار الأمريكي الأخير لم يأت من فراغ وليس ارتجالياً أو شطحة من شطحات ترامب كما أنه لا ينفصل عن القرارات السابقة حول القدس واللاجئين ،بل ينبني على رؤية سياسية خطيرة لها تبعاتها على مجمل القضية الفلسطينية وستؤدي لتصفية القضية الوطنية الفلسطينية ،وهي رؤية كانت حاضرة عند كل الإدارات الأمريكية ولكن كان لكل إدارة طريقتها في تمريرها والتعبير عنها ،وإدارة ترامب اسقطت كل الأقنعة وتشتغل على المكشوف ، وفي هذا السياق نوضح ما يلي :-
1- منذ أن أخذت واشنطن على مسؤوليتها رعاية عملية السلام بين العرب والإسرائيليين في مؤتمر مدريد 1991 وفي مجمل تحركاتها ضمن عملية التسوية وحتى في الاتفاقات التي رعتها بين الفلسطينيين والإسرائيليين كان موقفها واضحاً في تعاملها مع الضفة الغربية كأراضي متنازع عليها وبالتالي من حق إسرائيل مواصلة الاستيطان حتى يتم إنهاء النزاع ،وتصريح وزير خارجية واشنطن بومبيو يُشير إلى هذا البعد القانوني المزعوم حيث جاء فيه : "بعد دراسة جميع جوانب النقاش القانوني بعناية ، توافق هذه الإدارة ... على أن (إنشاء) مستوطنات مدنية إسرائيلية في الضفة الغربية لا يتعارض في حد ذاته مع القانون الدولي". وهذا زعم يتعارض كلياً مع المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن ومع الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر عام 2004 حول بناء جدار الفصل العنصري .
2- الموقف الأمريكي بشأن الاستيطان كان واضحاً في اتفاقية أوسلو التي رعتها حيث لم تنص هذه الاتفاقية على وقف الاستيطان واستمرت المفاوضات طوال ربع قرن مع استمرار الاستيطان بحيث تضاعف عدد المستوطنات والمستوطنين خلال هذه الفترة لعشرات المرات ،وهذا كان من الأخطاء القاتلة للقيادة الفلسطينية التي قبلت بتأجيل قضيتي القدس والاستيطان للمرحلة النهائية التي لم ولن تأتي .
3- عدم جدية الأمم المتحدة في معاقبة إسرائيل وغياب قرارات ملزمة بهذا الشأن ،حيث من المعلوم أن أول قرار دولي حول الاحتلال الإسرائيلي هو القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن يوم 22 نوفمبر 1967 إثر حرب يونيو من نفس العام وهو قرار غير ملزم كما تباينت التفسيرات حول صيغته ما بين (الأراضي المحتلة) و (أراضي محتلة) ،كما عجزت عن الزام إسرائيل بالمواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الشأن .
4- الصمت أو الردود الواهية من الحكومات العرب والسلطة الفلسطينية على مشاريع الاستيطان التي لم تتوقف يوماً وكان يتم الإعلان عنها رسمياً بلَّغ رسالة لواشنطن أنه يمكن الوصول لتسوية سياسية في ظل وجود المستوطنات ،وهذا ما استنتجته إدارة ترامب وعبر عنه تصريح بومبيو الأخير حيث قال : "لم ينجح اعتبار إقامة مستوطنات إسرائيلية أمراً غير متّسق مع القانون الدولي. لم يحقق تقدماً على مسار قضية السلام".
ستكرر القيادات الفلسطينية والعربية رفضها واستنكارها للقرار الأمريكي الأخير وقد تنعقد مؤتمرات حول الموضوع كما جرى مع قرارات أمريكية سابقة حول الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وحول اللاجئين وحول الجولان ،كما سيتم الاستنجاد مجدداً بالأمم المتحدة وربما بمحكمة العدل الدولية لاتخاذ موقف أو قراراً لإدانة القرار الأمريكي ،ولكن ماذا بعد ؟ .
سبق أن تم الاحتكام لمحكمة العدل الدولية عام 2004 بخصوص بناء إسرائيل لجدار الفصل وأصدرت المحكمة رأياً استشارياً مؤيداً للحق الفلسطيني بالمطلق حيث اعتبر القرار أن الجدار والاستيطان بشكل عام حالة تتعارض مع القانون الدولي والشرعية الدولية وطالبت المحكمة إسرائيل بهدم الجدار ووقف كل الأنشطة الاستيطانية ،ولكن القرار بقي حبراً على ورق وواصلت إسرائيل استيطانها كما هو الحال مع كل القرارات الدولية حول فلسطين حيث لا يوجد ولو قراراً واحداً ملزماً .
في ظل افتضاح الموقف الأمريكي واتضاح مواقف وقدرات الأمم المتحدة والشرعية الدولية في ظل موازين القوى الراهنة ،فإن من العبث الاستمرار في المراهنة فقط على الشرعية الدولية والأمم المتحدة وعلى الفلسطينيين البحث عن أدوات نضالية أخرى تعتمد على الذات الوطنية وتثبيت وجودهم على أرضهم وجعل الاستيطان مكلفاً ومحفوفاً بالمخاطر وعدم التجاوب مع أية مشاريع تسوية لأن هدف واشنطن من كل ما تقوم به هو إيصال الفلسطينيين لحالة من اليأس لدفعهم للقبول بأية تسوية سياسية ،وهذا لن يتم إلا بالوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام .
كما أن هذا الموقف الأمريكي يوجه صفعة للقيادة الفلسطينية ولجزء كبير من الشعب الفلسطيني الذي ما زال يأمل بتسوية سياسية تمنح الفلسطينيين دولة مستقلة تكون الضفة جزءا منها بل قلبها ،ومطلوب من القيادة اليوم موقفا واضحا وعدم الاكتفاء بالشجب والتنديد .
إبراهيم أبراش
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت