هل تدرك السلطة حقيقة ما يجري، فتقوم بالاستدارة المطلوبة للمواجهة. أم أن ما كُتب قد كُتب؟
■ في موسكو، لخص لنا وزير الخارجية سيرغي لافروف، صفقة ترامب ـــ نتنياهو فقال إن ما تعمل له واشنطن هو نسف قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وفرض رؤيتها لحلها، وتحويل ما تسميه «الواقع القائم» إلى واقع قانوني ومشروع.
في التدقيق يتبين لنا صحة كلام لافروف،
• فالقدس المحتلة تحولت إلى عاصمة لدولة إسرائيل، ونقلت إليها سفارة الولايات المتحدة. السبب أن الاحتلال المطول للمدينة، جعل منه واقعاً.
• والجولان السوري المحتل، اعترفت واشنطن بضم إسرائيل له. السبب أنه مضى على احتلاله نصف قرن وبالتالي تحول الاحتلال إلى واقع.
• ولأنه مضى على قضية اللاجئين الفترة الزمنية نفسها، باتت عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم أمراً «غير واقعي»، ما يستدعي البحث عن حلول بديلة لقضيتهم، بما في ذلك حل وكالة الغوث.
• وأخيراً، يعلن بومبيو، قبل أن يغادر وزارة الخارجية لمهمة أخرى، أن المستوطنات لا تخالف القانون الدولي (يقصد القانون الأميركي) ولعل هذا ما دعا سفير ترامب في القدس ديفيد فريدمان «للتنبؤ» أن السقف السياسي لصفقة ترامب لن يتجاوز الاعتراف للفلسطينيين بحكومة، (ليست دولة)، تدير شؤونهم، في إطار حكم إداري ذاتي، للسكان، يبقى دائماً تحت الولاية السياسية والأمنية والتبعية الاقتصادية لإسرائيل.
تصريحات بومبيو، استقبلها نتنياهو بترحاب شديد، قام على أثرها في جولة في المستوطنات، قبل أن يؤذن لنوابه بتقديم مشروع قانون للكنيست الإسرائيلي بالبدء بضم منطقة الأغوار، وتحويل البؤرة الاستيطانية «ميفوت يريحو» إلى مستوطنة رسمية، تشكل محور الوجود الاستيطاني الإسرائيلي في هذه المنطقة.
* * *
تصريحات بومبيو، وخطوة نتنياهو، تفضح لنا ـ للأسف ـ زيف الادعاءات بأن السلطة الفلسطينية استطاعت إفشال صفقة ترامب، وأن الرفض الكلامي اللفظي المجاني، كان كفيلاً بتحقيق هذا النصر العظيم. أصحاب هذه التصريحات، المحشوة بالنفاق والتزلف، والتمسح عند العتبات، تجاهلوا أن الاستيطان ما زال قائماً على قدم وساق في القدس، حيث يتم طرد السكان الفلسطينيين من دورهم، وإقفال المؤسسات الأهلية الفلسطينية على اختلاف وظائفها، وفرض الحصار على التجار الفلسطينيين، وإطلاق مشاريع تكريس ضم المدينة المحتلة على غرار القطار الهوائي (التلفريك) وحفر الأنفاق، وهدم المنازل لإقامة الحدائق العامة برموز دينية توراتية، لتكريس المدينة لطابع صهيوني يهودي خالص، وفي مقدمة هذا كله تحويل الاجتياحات الصهيونية والتوراتية للمسجد الأقصى ظاهرة يومية، بحيث تتكرس، بعد زمن، كأمر واقع، ينتهي إلى تكريس التقاسم الزماني والمكاني بين المسلمين واليهود. أما
في الخليل، فالأمور لا تقل خطورة، في ظل الادعاء بيهودية المدينة، بتوسيع المستوطنات المجاورة، وتوسيع البؤرة الاستيطانية في قلب المدينة، ومحاولات مصادرة المحلات التجارية بذريعة استعادة أملاك يهودية غادرها أصحابها مطرودين من المدينة، فضلاً عن اللجوء إلى إغلاق الحرم الإبراهيمي بين فترة وأخرى، ومنع المصلين من ارتياده، حتى يتم إغلاقه بشكل نهائي وضم ما تبقى منه إلى الجزء المصادر من قبل اليهود، باعتباره يهودياً خالصاً.
إلى جانب المسلسل الطويل من مسلسلات توسيع المستوطنات، وفرض الحصار على المدن والقرى الفلسطينية، وإغراق الضفة بالمزيد من المستوطنين، لفرض واقع ديمغرافي يخدم مشروع دولة إسرائيل الكبرى.
* * *
على الضفة الأخرى، تحقق القضية الفلسطينية انتصارات سياسية باهرة، في الأمم المتحدة، التي التزمت الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وتعيد تأكيد التزاماتها في الدورة العادية للمنظمة الدولية، بما يطال كل ملفات القضية، من اللاجئين، وحق العودة، إلى القدس، والاستيطان، وحق تقرير المصير، إلى محاكمة أداء الاحتلال وخرقه للقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة. وبحيث تبدو الأيام التي تحال فيها ملفات القضية الفلسطينية إلى لجان الاختصاص أو الجمعية العامة، من أكثر الأيام سواداً في حسابات الولايات المتحدة، وإسرائيل، اللتين تبدوان في عزلة تامة، حين تنفردان، وإلى جانبهما بضعة دول ميكروسكوبية، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، بالتصويت ضد الحقوق والمصالح الوطنية الفلسطينية.
أما المشهد الثالث الذي به نستكمل الصورة، فهو مشهد السلطة الفلسطينية وقيادتها التي ما زالت تقف عند حدود الرفض اللفظي المجاني (نؤكد «المجاني») لسياسات إدارة ترامب، وسياسات حكومة نتنياهو. فوزارة الخارجية، في السلطة الفلسطينية، تحولت إلى مجرد مكتب إعلامي، باتت وظيفته تنحصر في مراقبة الأحداث والتعليق عليها، ما يدعو للتساؤل عن سبب تجمع هذا الكم من الموظفين في الوزارة، وهذا الكم من السفراء في السلك الدبلوماسي، إذا كان دور وزارة الخارجية لا يتجاوز حدود مكتب صحفي، يديره اثنان أو ثلاثة في الحد الأقصى.
أما اللجنة التنفيذية، فما زالت غائبة عن الوعي، حتى أن اجتماعاتها التشاورية (وما أكثرها) باتت مفصولة تماماً عن الأحداث، هي في واد، والحدث السياسي في وادٍ آخر.
ودائرة شؤون المفاوضات تحولت هي الأخرى إلى مكتب إعلامي، قد يطور دوره أحياناً نحو مؤتمر صحفي، لا يتجاوز التصريح فيه لغة الشكاوي، واستجداء المواقف.
في المقابل، ما زالت السلطة، تعترف بإسرائيل، وتعترف بحقها في الوجود. والسلطة هي الطرف العربي الوحيد، الذي ما زالت أرضه محتلة، ويعترف في الوقت نفسه بشرعية دولة الاحتلال.
وما زالت السلطة الفلسطينية تقيم نظاماً للتعاون الأمني مع سلطات الاحتلال، والسلطة هي الطرف العربي الوحيد، الذي ما زالت أرضه محتلة، ويقيم تعاوناً أمنياً مع الجهة التي تحتل له أرضه.
كذلك ما زالت السلطة ترتبط اقتصاديا بدولة الاحتلال، «ببروتوكول باريس الاقتصادي».
والسلطة هي الطرف العربي الوحيد، الذي ما زالت أرضه محتلة، ويجعل من مناطقه سوقاً استهلاكية لإنتاج الجهة التي تحتل أرضه، ويعود عليها بكسب سنوياً لا يقل عن 6 مليارات دولار. منها يستورد ما لا يقل عن 96% من احتياجاته اليومية من بضائع ومواد مختلفة.
هذا مشهد لا مثيل له في التاريخ، إلا في حسابات السلطة الفلسطينية وقيادتها.
وواضح أنها في هذا الجانب تغلب حرصها على البقاء على رأس السلطة، وعلى الحفاظ على مصالحها ومكاسبها ونفوذها، على حساب مصالح الشعب وحقوقه الوطنية والقومية.
والسلطة هي حركة التحرر الوطني الوحيدة في العالم، التي تقيم تنسيقاً مع المخابرات الأميركية بدعوى مكافحة الإرهاب، وبدعوى أن 73 دولة أخرى تنسق في السياق نفسه.
من خصوصية موقعنا نتساءل عن تعريف الولايات المتحدة للإرهاب، وعن تعريف إسرائيل للإرهاب. وهل يتطابق مع تعريف السلطة له؟ علماً أن الإرهاب، وفقاً لتعريفنا، هو الاحتلال الإسرائيلي لشعبنا وأرضنا، ففي مواجهة «أي إرهاب تنسق السلطة الفلسطينية مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل»؟.
المشهد السياسي يتطور بسرعة قصوى. والوقائع الميدانية تتراكم.
فهل تسارع السلطة وقيادتها إلى التفاعل مع هذه الوقائع، والقيام بالاستدارة الضرورية، كما يمليه عليها واجبها.
أم أن ما كُتب قد كُتب ■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت