تراكضت خطواتي فوقها، ولعبت بترابها وألقيت حصاها على ذلك المستنقع في وسطها، وتسلقت أغصانها وداعبت زهرات الربيع ولاحقت فراشات تتناقل فوق أوراقها. كم جميلة أرضي هذه التي تكسو خداها خضرة، كما يفجر باطنها ماءً عبقاً، تعانقك رائحة الليمون والبرتقال من كل ناحية، ويشدك خصوبة التراب ولين تمدده، تحبها وتعشقها حتى تتمنى أن تختلط بذراتها، وتنبت طهارة من قدسها. أرضك فلسطين ريحانة السماء وسيدة الأرض. كم يأخذني الألم عندما تُمحى أثار خطواتي فوق أرضي، تلك الطفولة التي داعبتها لعباً، هذا المغتصب للأرض يشوه تضاريسها، كما يحاول أن يشوه الذاكرة لتاريخها، سرق الأرض المقدسة ليدنسها بأثاره الخبيثة، ويزرع فيها سمومه القاتلة لخضرتها وجمال طبيعتها. لم يكتفي بأن سرق الساحل لشاطيء جميل، ممتد إلى اليم القريب، تلك التي أخبري والدي من حكاية جده، كانت أرض الجنة حدائق ذات بهجة، أُحكمت بكل الثمار التي تُحبها النفس وتشتهيها، كيف اقتلع الخيرات ليسكن فيها صناديد الظلام، جمعت من أقطار الأرض، ليعيثوا في بركتها فساداً وظلما.
كانت تلك أرضي، التي حلمت كيف سأزرعها وأكسوها بكل أطياف الزرع، لتنبت مزيداً من الخضرة، الأن أصبحت نشاف عمها الجفاف والجفاء، خُلعت قسراً من ثوبها، لتغتصب بأدناس الإحتلال الصهيوني وقطعان استيطان سام. أحاطوا الأرض كما المدينة، بجدار لفها كسوار يقلع العنق ويخرج الروح، وصنعوا عنصرية القرن الأخير، لم تسبق لها الأمم في الأفعال، حواجز منتشرة بين الطرقات، وعلى مداخل المدينة هنا، مقدمات تمنع من الدخول، إلا بتصاريح مختومة بأحرف الظلام. هذا الحاجز اللعين على شمال المدينة، تلك الطلة التي كانت بالأمس أجمل الطرقات، تترابط مع فلسطين المسلوبة منذ عام الثمانية الأربعين، كان امتداد لتاريخ فلسطين، وهذا الساحل الغني بالخيرات، الأن بات في قبضة الإحتلال، وهُجر من ملاكه منذ عام سبعة وستين، فأصبح يتيماً كما يتيم الوالدين، كأنه لم يرضع من أناملهم قطرات الحرث لترابه، ولم تداعب أياديهم ثماره، لتقطفها مع انتهاء كل موسم.
جاء هذا المحتل سارقاً للأرض وساحلها، ثم أكمل مخططه على باقي المدينة ليصنع منها سجناً، ويلفها بحائط العار من كل ناحية، ويصادر الأرض ويقهر الإنسان. حاجز الشمال لمدينتي قلقيلية، هذا الحاجز الذي أُجبر على المرور منه رغم غصتي وقهري، تلك الأرض التي رأيتها في طفولتي، وأنبتت في داخلي عشقها، الأن تحولت لحاجز الموت والقهر، قبل الوصول للدخول إليه أُعدت الكثير من الخطوات، كي تستحق الدخول من خلاله لأرض أجدادك وتاريخك، لا بد من تصريح الإدارة المدنية، أو هوية يسمونها ممغنطة، ولا بد من عمر تتعدى فيه الخمسين عاماً أو أكثر، والأفضل أن تكون متزوجا لزيادة الأمن. تدخل في بوابته الأولى، تسير فيها بمزراب طويل، حتى تلاقيك تلك "المعاطة" كما يسمونها أهل فلسطين، تلف جسدك لا تدري ما تفحص بأعضائك، وهكذا تبقي تمر في مزاريب ومعاطات عديدة، حتى تصل لنقطة العبور الأخيرة، ولم يكتفي الإحتلال الصهيوني بذلك، فقط زرع المراقبة لك في كل مكان، من أجهزة الكاميرات، وقناصي الأسلحة الدقيقة، لرصد كل حركة فيك يُشك فيها، كي تلاقي مصرعك في لحظة إن أصبت ريبتهم.
تصل نقطة العبور للمعبر، أنت وحظك فقط تصل لتصطف بالطابور الطويل، من عمال استيقظوا من فجرهم ليقتاتوا قوتاً لعيالهم، وأناس يحلمون بزيارة أهاليهم التي قطع الجدار وصلهم، أو يودون العبور لأرضهم المحاصره خلف الجدار، علهم يقطفون منها بعض الثمار، أو يزرعون بها شجرات تبقي الحلم في جوانحهم دون أن يموت. وفي الغالب سيكون المعبر ممتلأً بالحشود من الناس الذي يودون العبور، وخاصة إن كان إغلاق للبوابة "المعاطة"، ولا تفتح إلا بإذن ذلك المتربص خلف جهازه وزجاجه وسلاحه، تدخل المعاطة الأولى ليقابلك جهاز الفحص لكل ما تحمل معك لتلقيه عليه، ثم تمر عبر جهاز أخر للفحص بالأشعه، فتشعر أنك دخلت لمسلخ الموت الذي سيشرح أعضاءك، ويبحث عما تغذيت به، وعندما تنتهي في المرحلة الأولى على المعبر، ستلاقي معاطات عديدة وأبواب كثيرة، تُؤمر بالدخول إليها حتى تصل شباك ذلك المتربص خلف الزجاج من الإحتلال، وفوق رأسك يدور ذلك القناص بسلاحه يراقب أنفاسك. والأشد من ذلك كله، عندما لا تُحول بعد ذلك الفحص لشباك المرور، بل تُحول إلى جهاز التفتيش الدقيق، وخاصة عندما يطلب من النساء الدخول إليه، ويكون من يشرف عليه مستوطن خبيث، يتربع فوق كرسيه وأمام جهازه وميكروفونه، فيأمرك بالصعود فوق الجهاز، دون رحمة ولا انسانية لإمرأة عجوز كبيرة بالسن أو طفلة صغيرة أو مريض لا يقدر على التحرك، حتى لو كان من ذوي الإحتياجات الخاصة، تدخل إلى تلك الألة التي لا تعلم ما تفحص فيك، وفي داخلك غصة القهر والإذلال، وتتمنى لو أنك تستطيع أن تعترض على كل ما يحدث، لكنك الطرف الأضعف الأن، ومضطر للعبور لتستمر ببعض حياتك، تقف بطريقة معينة على ذلك الجهاز، حيث لا بد من وضع القدمين على العلامة المحددة على أرضه، وترفع كتفيك بطرقة ما، وتنظر إلى عين الجهاز أمامك، حتى تلتف الألة من حولك، وتصور كل جسدك من الداخل، وأنت مُعرض أن يكرر عليك ذلك عدة مرات، حيث لا بد للمتربص بك أن يسمح لك بمغادرة هذا الجهاز، وإلا بقيت معلقاً في داخله، والأسوأ عندما يكون كبار السن من يفعلون بهم ذلك، ولا يقدرون على الوقوف الطويل ورفع الكتفين، وهم يتجاهلون ذلك دون رحمه.
وفي حال نجاحك بالمرور على هذه الألة، دون أن يعتقلوك أو يحتجزوك أو يأمروا بتفتيش أخر بغرفة التفتيش المباشر للجسد، تخرج من بوابة أخرى لا تفتح، إلا بإذن ذلك المتربص خلف شبابكه، ومن يلف فوق رأسك بسلاحه. وعندما تخرج من ذلك الإعتداء على كرامتك وإنسانيتك، تفاجأ بمساريب عديدة، تنتهي كل منها عند شبابك لمتربص من جنود الإحتلال، وتقف في الطابور الطويل، حتى يحين دورك لتعطيه هويتك وتصريحك، وتُمسمر أمام عدسة الكاميرا على شباكه، حتى تضيء لك باللون الأخضر، عندها يسمح لك بالعبور الأخير لتخرج إلى حيث وجهتك، وإلا عدت من حيث أتيت لعدم شرعية مرورك، أو تم اعتقالك لأنك مطلوب لديهم، ولا بد أن تُفتح بوابة صغيرة على جانبك، تلفها بقدميك عندما تضيء باللون الأخضر حتى تتمكن من الدخول، وإن بقيت مغلقة لا تستطيع حتى يأذن لك جندي الإحتلال بذلك. ولم يكتفى بكل هذا، وعند الخروج لا بد من عبور معاطات أخرى، حتى تخرج إلى الأرض المفتوحة أمامك، لتبحث عن سيارة تقلك إلى بغيتك، وتبقى كاميرات المراقبة تُلاحقك، كما ذلك الُمتربص فوق أعلى الأماكن بسلاحه ومنظاره. إنها أساليب الإعتداء على الإنسانية الحقيقة، وسرقت الأرض والإنسان، وقهر النفس التي عاشت تحلم بأرضها وتاريخها، إنهم أعداء الحياة وصناع الموت، هؤلاء بني صهيون الذي لم يعرفون للكرامة والحياة يوما طعماً ولا لونا، وخلقوا من عنصرية همجية لا تعرف الحقوق ولا حريات الإنسان ولا احترام لقوانين دولية ومواثيقها .
غداً ستعود الأرض بإذن الله، وسنزرعها من جديد ذلك البرتقال والليمون، وكل أطياف الثمار الجميل، وسيعود الساحل ليكون أخضراً، كما حكايات جدي وأبي عندما فرش بالأخضر طيبات، وستبقى الأرض قدسية طاهرة رغم كل دناسة الإحتلال.
آمال أبو خديجة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت