من النساء النادرات في قطاع غزّة

حكاية "أم جميل".. بائعة السمك

" أم جميل" بائعة سمك في غزة

داخل سوق مدينة دير البلح الواقعة وسط قطاع غزة، ومع ساعات الفجر كانت السيدة أم جميل الأقرع التي وصلت برفقة ابنها، تقف إلى جانب تجار السمك، تناقشهم في الأسعار، ويأخذهم الحديث عن البلاد وأحوالها وموسم الصيد وتخوفاتهم من إقدام إسرائيل على تعطليه، بحجةِ أحداثٍ أمنية.

دقائقً تمضي، يصل الصيادون على متنِ مركباتهم، يحمل كلّ منهم ما جاد به البحر عليه من رزقٍ في ليلةِ طويلة قضاها تحت خطر رصاص البحرية الإسرائيلية. تتسارع خطواتها وباقي التجار باتجاههم وتبدأ المنافسة على الشراء من خلال عمليةٍ تعرف باسم "الدلالة".

في ذلك اليوم حظيت "أم جميل" بشراء عدّة صناديق بلاستكية لا تتجاوز الخمسة تضم أنواعاً مختلفة من الأسماك منها "السردين والبلاميدا".

جهّزت نفسها والبضاعة وانطلقت نحو رحلتها اليومية الشاقة، طالبةً الرزق لعائلتها.

**عملٌ شاق
تقول "أم جميل" التي تبلغ من العمر (57 عاماً) لمراسل وكالة "الأناضول": "رحلتي اليومية تبدأ من ساعات الفجر، وتستمر حتّى الظهيرة، وأحياناً لما بعد ذلك، وما يحكمني هو انتهاء الكمية"، مردفةً "منذ 15 عام أعمل كبائعة سمك والكلّ يعرفني لأنّي من النساء النادرات في قطاع غزّة، التي لا زلت صامدةً في هذه المهنة".

وتضيف "إذا تمكنّت من شراء كمية وفيرة تضم أنواع أسماك مطلوبة لدى المحلات والمسامك، فعلى الفور أنقلها للمنزل وأجهزها للنقل للحسبة (السوق) الرئيسية الواقعة بالقرب من ميناء غزة، وأستأجر لأجل ذلك دراجة نارية (توكتوك)".

وحال كان الأمر دون ذلك، تكتفي "أم جميل" ببيع ما لديها من أسماك داخل سوق محافظتها دير البلح وفي الأماكن القريبة منها.
وتزور السيدة الأسواق الأسبوعية التي تقام داخل محافظات قطاع غزّة في أوقاتٍ مخصصة، وتمتاز بكثافة روادها، إذا ما شعرت أنّ البيع تراجع في الأماكن المعتادة، وتشير إلى أنّه في بعض الأحيان يفيض السمك معها وتضطر لإعادته للبيت.

**حاجةُ مُلحة
للسيدة الخمسينية خمسة أبناء، ثلاثة منهم إناث وشابين، وتذكر أنّ ابنها الأكبر هو السند لها في عملها، فيكاد لا يغيب عنها ولا للحظةٍ، حيث يعاونها كثيراً في الأشغال التي تحتاج لجهد عضلي، مثل رفع الصناديق وتفريغها.

أمورٌ كثيرة دفعت "أم جميل" لهذا العمل، الذي لا يغيب التعب عن تفاصيله، تسردها بعد أن مسحت عرقٍ عن جبينها "السبب الأول كان انقطاع زوجي عن العمل داخل إسرائيل، بعدما أغلقت الأخيرة الحواجز ومنعت الأيدي العاملة الغزية من الولوج لداخلها، في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000".

أما السبب الثاني فيتمثل في رغبتها الداخلية في توفير احتياجات أبنائها، كما أنّ حبها للبحر الذي نشأ معها منذ زمن الطفولة وعشقها الكبير الذي ورثته عن والدها لما يفيض به من خير، هو دافعٌ آخر، كما توضح.

**صيتٌ إيجابي
خلال السنوات الماضية، اعتاد الناس في كلّ مكانٍ تزوره "أم جميل" على إلقاء التحية عليها وترديد عبارة "الله يجبر عنك (يسر الله بيعك) يا إم جميل، إن شاء الله نهارك سعيد"، وتروى "في أصناف الطعام بشكلٍ عام، المواطنون يحبّون التعامل مع النساء، كونهم يعتقدون أنّهن ذوات الاختصاص الأفضل في هذا المجال".

وتنوه إلى أنّها لم تشعر يوماً بأنّ أحداً من الناس تحدث عن عملها بسوء أو انتقد خروجها الباكر للعمل، لاسيما وأنّها تعيش في ظلّ بيئة مجتمعية محافظة تقيّد كثيراً حرية المرأة في ممارسة أنشطة مخالفة لما اعتادت عليه الغالبية، مؤكّدةً أنّها تشعر بالفخر كلما زاد انتشار صيتها كـ "بائعة سمك".

وتضيف "بسبب جهد العمل، أحتاج لأدوية دائمة لمعالجة آلام ظهري وقدميّ، كما أنّ زوجي لا يستطيع العمل بسبب إصابته بالغضروف قبل عدّة سنوات"، متابعةً "أنّ أسعار الأسماك ليست تابثة، من يومٍ لآخر، حيث أنّ ذلك يرجع للكمية الخارجة من البحر ونوعيتها".

**تأثر بالحصار
أقل من 15 دولاراً هو ما تحققه "أم جميل" كدخلٍ يومي من وراء عملها، "وينعدم وجود ذلك المبلغ حال قررت إسرائيل إغلاق البحر ومنع الصيادين من دخوله، كما يحدث بين وقتٍ وآخر"، تزيد.

ويؤثر الوضع الإنساني الصعب الذي يعيشه قطاع غزّة بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض منذ عام 2006 على عمل "أم جميل"، التي كانت في السابق تبيع أضعاف الكمية التي تُوزعها اليوم، وتنبّه إلى أنّ ذلك التراجع ساهم كثيراً في ازدياد حالة المنافسة بين البائعين، فانخفضت الأسعار وقلّ هامش الربح.

وتعمل إسرائيل على تقييد حرية الصيادين وبالتالي التقليص من كميات الأسماك في القطاع، فتارةً تسمح بالصيد حتّى مساحة ثلاثة أميال بحرية، وفي أخرى ستة أميال، وفي أحسن الأحوال يصل الصيادون لـ 15 ميلاً.

وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، قد حذر في تقريرٍ له حمل عنوان "صيد السمك في غزة: صناعة في خطر"، من انهيار ذلك القطاع، إذا ما استمرت إسرائيل في فرض قيودها، واتهم الإسرائيليين بعدم توضيح المكان والزمان الذي يسمح بهما للصيادين الفلسطينيين بصيد السمك.

**"حياةٌ كريمة فقط"
رغم حبّها الشديد للمهنة، لكنها تقول إنه حال توّفر لها مصدر دخل بديل يخلصها من الكدّ والشقاء، فسوف تتركها دون تردد، لأنّ العمر "لم يتبقَ فيه أكثر مما مضى"، مشيرةً إلى أنّ عملها يكفيها عن سؤال الناس، فمن خلاله توّفر حياةً كريمة.

وتختم حديثها للأناضول "كلّ أملي هو تحسن حال البلاد، وأن أنعم بحياةٍ أفضل برفقة أبنائي وزوجي الذي يعاني من عدّة أمراض ويجلس في البيت لسنواتٍ طويلة دون عمل".

يشار إلى أن معدل الفقر في قطاع غزة وصل إلى 75% وفقاً لآخر البيانات الصادرة عن وزارة التنمية الاجتماعية، وتعتمد أكثر من 80% من الأسر الغزّية على المساعدات، ووصلت نسبة البطالة في القطاع بحسب آخر إحصاءات مركز الإحصاء الفلسطيني إلى 53%.

والجدير ذكره، أنّ مواسم صيد السمك بشكلٍ عام تختلف من شهر إلى آخر حيث يزداد السمك في الأشهر الباردة والتي تأتى في بداية ونهاية السنة، بينما تقل في باقي الشهور الحارة، وهي "مايو، ويونيو ويوليو وأغسطس".

 

أم جميل


 

المصدر: غزة - محمد أبو دون -