العبث بالبوصلة الوطنية لعبة خطيرة ... فالضفة هي مسرح تطبيق "صفقة ترامب ـ نتنياهو"
■ تحولت قضية المستشفى الأميركي في قطاع غزة إلى مسألة وطنية من الطراز الأول، في اهتمامات بعض القوى السياسية، وتقدمت على باقي القضايا، كما شكلت في الوقت نفسه سلاحاً جديداً، بيد السلطة الفلسطينية، وحركة فتح، تشهره في وجه حركة حماس، في إطار احتراب الانقسام المدمر بينهما، حتى أن فتح، لجأت على غرار حماس، إلى الفتاوى الدينية لتحرم، بفتوى شرعية، التعامل مع المستشفى، بينما غابت الفتاوى الدينية في تحريم تعامل جهاز استخبارات السلطة الفلسطينية مع وكالة المخابرات الأميركية، في إطار ما يقال إنه "مكافحة الإرهاب".
اللجنة التنفيذية، على لسان أمين سرها، وحكومة السلطة، على لسان رئيس الوزراء، وحركة فتح، على لسان الناطق باسمها، لم توفر كلمة إلا ولجأت إليها في توصيف المستشفى الأميركي ووظيفته، وفي توصيف المشاريع التنموية المرصودة للقطاع، في إطار التفاهمات مع حركة حماس، وصولاً إلى التأكيد أن ما يجري في القطاع، في هذا السياق، هو تطبيق لقرارات وتوصيات ورشة المنامة، وتطبيق لصفقة القرن (صفقة ترامب ـ نتنياهو).
بالمقابل، توقفت الحملة ضد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وإطلاقه الإشارة الخضراء لحكومة دولة الاحتلال، لتحرر مشاريع الاستيطان من قيودها، وتطلق سراحها لتعيث خراباً ودماراً في أنحاء الضفة الفلسطينية.
وبالمقابل كذلك، طويت ملفات اقتحامات المستوطنين المسعورين للأقصى، والصلاة في باحاته، وتصعيد هذه الاقتحامات للصلاة في مصلى باب الرحمة، كسابقة سيكون لها تكرارها لتحويلها إلى واقع مسلم به.
وطويت(حتى قبل أن تفتح) قضية بناء مستوطنة يهودية في سوق الخضار، في قلب مدينة الخليل، وقضية القضم التدريجي للحرم الإبراهيمي، والتهجير المنهجي لسكان المدينة من الفلسطينيين ليحل محلهم مستوطنون يهود.
كذلك مرّ مرور الكرام مشروع القانون الذي قدمته إلى الكنيست الإسرائيلية، أحزاب اليمين المتطرف والدينية اليهودية، لمنع وكالة الغوث من تقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين في القدس، في إطار تكريس "يهودية" المدينة المحتلة باعتبارها "العاصمة الأبدية" لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
مشهد فلسطيني مثير للاستغراب، ومثير للأسى، كما هو مثير للألم.
* * *
لسنا في معرض الدفاع عن المستشفى الأميركي، ونحن ندرك في الوقت نفسه، أن الدم الفلسطيني مصاب بحساسية دائمة إزاء كل ما هو أميركي، بسبب حجم الكوارث والمصائب التي ألحقتها الولايات المتحدة بالقضية الفلسطينية والمنطقة العربية. لكننا في الوقت نفسه نلفت النظر إلى أن من حاول أن يجعل من هذا المستشفى القضية الوطنية الأولى، تناسي، أو نسي، أن المستشفى ليس هو المؤسسة الأميركية الوحيدة الناشطة في القطاع، فهناك ثلاث مؤسسات أميركية منها (USAID) تنشط في القطاع ويديرها أميركيون.
إذن المسألة، في إطارها الواقعي والحقيقي، إما أنها محاولة لدغدغة المشاعر الشعبية عبر إطلاق النيران الإعلامية على المستشفى، وإما أنها تندرج في إطار الإحتراب المدمر بين طرفي الانقسام، وقد توفرت للسلطة الفلسطينية وفتح فرصة سانحة للتصعيد في الإحتراب، في وقت تؤكد فيه مصادر قيادة السلطة أنها بصدد دراسة ردود الفصائل الفلسطينية ومن ضمنها حماس، على رسالة الرئيس عباس إلى الدكتور حنا ناصر، بشأن الانتخابات. ما يدفعنا للسؤال، ما إذا كان تصعيد الإحتراب بين طرفي الانقسام، يخدم عملية التحضير للانتخابات التي يطمح الجميع (ونقصد الشارع الفلسطيني) أن تكون خطوة نحو مرحلة جديدة، تعيد بناء المؤسسة الفلسطينية، وتدفع نحو خطوات عملية لإنهاء الانقسام، واستعادة وحدة المؤسسة، وتعزيز عناصر القوة الفلسطينية في معركة التحرر الوطني من الاحتلال.
وبالتالي، هل المشكلة في المستشفى، أم في أن المستشفى قد يشكل خطوة إضافية لتثبيت أقدام سلطة الأمر الواقع متمثلة في حماس.
وهل الهدف المستشفى أم أن الهدف، تعكير الأجواء، تمهيداً لخطوات أخرى تعود إلى إفشال الدعوة للانتخابات.
أسئلة محقة، من موقع الحرص على تهيئة الجو لإنجاح الدعوة للانتخابات، ومن موقع الحرص على إطفاء نيران الإحتراب المدمر، في لحظات سياسية خطيرة، نطرحها في هذا السياق.
* * *
من أطرف ما قرأنا أن المستشفى الأميركي خطوة في تطبيق صفقة القرن (صفقة ترامب ـ نتنياهو).
في هذا الادعاء، نقرأ أحد احتمالين:
• إما أن صاحبه لم يدرك عمق صفقة القرن (صفقة ترامب ـ نتنياهو) وعناصرها وآلياتها، وميدان تطبيقها (هذا احتمال نستبعده تماماً لأن هذا الادعاء ورد على لسان من يفترض بهم أن يكونوا في مقدمة من قرأ التفاصيل الخطيرة والأهداف البعيدة والقريبة للصفقة).
• وإما أن صاحب الادعاء، يحاول أن يجعل من "الصفقة" تهمة يلصقها بمن لا يتفق معه على خطواته السياسية اليومية، وأن يبعد الأنظار في الوقت نفسه، عن تقاعس السلطة الفلسطينية، في مقاومة "الصفقة" وإصرارها، لأسباب باتت واضحة، على الوقوف عند حدود الرفض الكلامي المجاني للصفقة، وأن ترسل، في الوقت نفسه، عبر قناة التعاون مع المخابرات الأميركية، الرسائل السياسية التي ترغب في وصولها، تحت الطاولة إلى الإدارة الأميركية، في إطار سياسة تحاول أن لا تتجاوز الخطوط الحمر التي رسمتها لنفسها في "رفض الصفقة".
ملعب تطبيق صفقة القرن (صفقة ترامب ـ نتنياهو) هو الضفة الفلسطينية، أي منع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهذا ما تؤكده الوقائع الميدانية، بدءاً من الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال، وإغلاق مكتب مفوضية م. ت. ف، في واشنطن، وفرض الحصار المالي على السلطة الفلسطينية، وشرعنه الاستيطان، وتأييد مطلق لقانون القومية اليهودية العنصري، في سياق بناء دولة إسرائيل الكبرى، مقابل حكم إداري ذاتي للفلسطينيين في الضفة (والقطاع) تحت الهيمنة الإسرائيلية.
من جهة أخرى، من أهداف "الصفقة" شطب حق العودة، وتفكيك قضية اللاجئين، عبر خطوات متتالية، تنفي وجود قضية بالأساس.
أما قطاع غزة، فليس هناك من هو مستعد لحمله على أكتافه، لأن الغرب يدرك أن القطاع ما هو إلا مخيم كبير للفلسطينيين، لا يمتلك مقومات العيش إلا بالإمداد الخارجي. ولا يملك مقومات بناء اقتصاد وطني إلا بالالتحاق بالخارج، وما يقدم للقطاع الآن، يندرج في إطار "التفاهمات" التي تديرها حركة حماس مع الأطراف الإقليمية، في ظل قناعة إسرائيلية أن كف يد المقاومة الفلسطينية، ودرء "خطرها" على إسرائيل، يكون ببناء حلول للمأساة الاجتماعية للقطاع. إذن، كخلاصة:
معركة صفقة ترامب ـ نتنياهو في الضفة الفلسطينية، وفي القلب منها القدس (ونضيف الخليل).
ومعركة التصدي "للصفقة" في الضفة الفلسطينية. ولا يفيد هنا تضليل البوصلة، وتضيع الاتجاهات وخلط الأولويات. الألويات مازالت هي.. هي.. أي الانتقال من الرفض الكلامي المجاني لصفقة ترامب ـ نتنياهو، إلى الرفض الميداني، وفقاً لقرارات المؤسسة الفلسطينية (المجلس الوطني والمجلس المركزي).
وأي تهرب خارج هذه الرؤية، ما هو إلا تعامي عن الخطر الحقيقي، لن تعود مخاطره وكوارثه على حماس، بل على القضية الوطنية برمتها■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت