“غيضٌ مِن فيْض: ضحيّة واحدة كلّ سنة على مدار 30 سنة” عنوان كراسة توثيقية لمنظمة حقوقية إسرائيلية

مواجهات مع قوات الاحتلال الاسرائيلي في الخليل

تؤكد منظمة حقوقية إسرائيلية مناهضة للاحتلال أن فضح انتهاكاته وجرائمه مهمة لكنها غير كافية، وأنّ الخطوات الدولية الحاسمة وحدها القادرة على تعديل ميزان القوى وتغيير الواقع وإنهاء هذا الاحتلال.

وعشية اليوم العالميّ لحقوق الإنسان، احتفلت منظمة “بتسيلم” لحماية حقوق الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967، بالذكرى الثلاثين على تأسيسها، بإصدار كراسة توثيقية جديدة بعنوان “غيضٌ مِن فيْض: ضحيّة واحدة كلّ سنة على مدار 30 سنة” والذي تمّ إطلاقه في أمسية الثلاثاء.

وأوضحت “بتسيلم” أن “غيضٌ من فيْض” لأنّ الندوب التي تخلّفها فظائع الاحتلال في الجسد والنفس تطال كلّ واحدة من الأسر على مر السنين والأجيال. وتتساءل بالقول إنه بعد خمسين عاما ونيف على الاحتلال، هل هناك أسرة فلسطينيّة واحدة لم يتعرّض أحد أبنائها أو بناتها للإهانة والإذلال والاعتقال والضّرب والإصابة والقتل؟ ولو حتى أسرة واحدة ضمن الملايين الخمسة الذين تدوسهم بساطيرنا كلّ يوم ؟

وتابعت “بتسيلم” في بيانها: “غيضٌ من فيْض” لأننا وصفنا هنا حالات القتل والإصابة والضرب وطمسها المنهجي. ولكن هذه فقط بعض أوجه عُنف الاحتلال. لن تجدوا بين هذه الصّفحات ذكرا لهدم المنازل أو تقييد الحركة والتنقّل أو الاعتقال الإداري والتعذيب أو نظام التصاريح أو اعتقال الأطفال أو طرد الناس من منازلهم أو عنف المستوطنين بدعم الدولة أو التدريبات العسكرية داخل الحقول الزراعية أو الجنود “المهذّبين” الذين يقتحمون غرف النوم في دُجى الليل أو المحاكم العسكريّة وتلك التي أقيمت منها خصيصا لمحاكمة الأطفال أو المستوطنات ونهب الأرض والماء أو التعسف والتسيّد والاستعلاء الذي تمارسه جميع أجهزة النظام الإسرائيلي المتواطئة جميعا – من قضاة المحكمة العليا إلى آخر موظفي الإدارة المدنية- من أجل القمع ودوس الحقوق وطمس الحقائق والسّير قدُمًا في المشروع الإسرائيلي الكبير، مشروع سحق الشعب الفلسطيني وجعله حطاما لتسهيل القمع والسّلب والنهب والطرد”.

غيضٌ من فيض
ونوهت “بتسيلم” التي تأسست بعد نشوب الانتفاضة الأولى، أنه منذ خطوتها الأولى في عام 1989، كان اسم بتسيلم “مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة” هو اسم يعكس الطريق التي آمنّا بأننا من خلالها سوف نتمكّن من إحداث تغيير: معلومات موثوقة من أرض الواقع تُجبر الإسرائيليين على النظر إلى الصورة المروعة لفظائع الاحتلال ولا تترك لهم فرصة الإشاحة بأنظارهم أو التهرب بذرائع واهية. عندها سيأتي التغيير.

وتضيف: “مرّت ثلاثون سنة شهدنا خلالها كيف طورّت أجهزة الإنكار والدعاية أداءها. كيف يتم التفنن في المماطلة وتُلعن المعلومات الموثوقة وإلى الجحيم أيّتها الحقائق! طالما يجري الحديث عن دولة عظمى إقليميا ترسل جيشها المدجج بالسلاح ليقمع وينهب شعبا مجرّدا من أية حماية وأية حقوق تسهل إشاحة النظر”. وأكدت “بتسيلم” أن المعلومات الموثوقة التي يتمّ جمعها من أرض الواقع كانت ولا تزال عماد عملها ولكن بات واضحا اليوم انّها لا تكفي رغم أنها مهمة جدا”. وتتابع: “لذلك إلى جانب التزامنا بمواصلة كشف الفظائع والإصرار على ألا يُشاح النظر -لهذا نُصدر هذه الكرّاسة- من الواضح اليوم أن الخطوات الدولية الحاسمة وحدها القادرة على تعديل ميزان القوى وتغيير الواقع وإنهاء الاحتلال”.

مساواة بالحقوق
وتذكّر “بتسيلم” أنه فيما تدخل هي العقد الرّابع لعملها، يدخل الاحتلال عقده السادس. وتقول إن ما نشرته هنا ليس سوى غيضٍ من فيض، وأن المستقبل ينطوي على مزيد من أيام الضرب والقتل والقمع البيروقراطي والاعتداءات الجسدية، أيام تتصدر فيها المناطق المحتلة العناوين وأيام لا تُذكر فيها بكلمة واحدة. ولكن الاحتلال موجود سواء سمعتم عنه أم لفّه الصمت. وتضيف: “موجود كل يوم في حياة ملايين الأشخاص: أولئك الذين تُدار حياتهم بالأوامر العسكرية والرصاص الحي وغموض القادم وهو موجود أيضا في حياة من يفرضون عليهم ذلك”.

أما المستقبل القادم برأي “بتسيلم” فيجب أن يسوده واقع مختلف بالنسبة لنا جميعا، نحن الملايين الـ14 الذين نقيم بين النهر والبحر: مستقبل تسود فيه المساواة بيننا بحيث نتمتع جميعنا بكامل الحقوق وبالقدرة على تقرير مستقبلنا. واقع لا يكون فيه القانون فأساً يضرب بها الأسياد ليسحبوا الأرض من تحت أقدام الرعايا وإنما أداة جوهر وظيفتها حماية حقوق الإنسان. حقوق الجميع. هذا المستقبل قادم لا محالة “.

جنود يحتجزون طفلًا فلسطينيًّا في العاشرة من عمره
ومن جملة الروايات الواردة في كراسة “غيض من فيض” مأساة قصي الجعّار، طفلٌ في العاشرة من عمره يسكن مع عائلته في حيّ الظهر في قرية بيت أمّر شمالي الخليل. وفي شهادتها توضح “بتسيلم” أنه في يوم الجمعة الموافق 18-10-2019، في ساعات ما بعد الظهر، حيث كان قصي يساعد والده في إنزال بقايا إسمنت عن سطح منزلهم، وكان يساعدهما في ذلك ابن خاله رامي العلمي، البالغ من العمر 17 عاماً. وفيما الثلاثة منشغلون في إخلاء مخلفات البناء بواسطة دراجة قصي الهوائيّة، مرّ بهما ركضاً ولدان ملثمان.

بعد مضيّ دقائق عدّة، أي نحو الساعة 18:00 توقّف فجأة جيب عسكري أمام منزل الأسرة وترجل منه أربعة جنود، تقدم اثنان منهم نحو قصي وأمسك أحدهما به من قميصه وجرّه نحو الجيب وأدخله إليه دون أن يقول أية كلمة. إزاء ذلك، قفز إبراهيم (31 عاماً) والد قصي عن سطح المنزل وحاول إقناع الجنود أن يتركوا ابنه، فأطلق أحد الجنود رصاصة في الهواء. وحاولت ختام (29 عاماً) والدة قصي وكذلك أقارب آخرون التدخل، ولكن الجنود دفعوهم ومنعوا اقترابهم من قصي وألقوا قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع، كما أطلق أحدهم طلقة أخرى في الهواء.

كذلك قيّد الجنود يدي قصي وعصبوا عينيه داخل الجيب، ثمّ غادروا إلى نقطة عسكرية داخل مستوطنة “كرمي تسور” الواقعة على بُعد نحو 150 مترا من منزله. أجلس الجنود الطفل في العراء على كرسي في ساحة، وبعد عدة دقائق جاء الوالد إبراهيم الجعار إلى المكان وسمح له الجنود بالدخول. وقف إبراهيم في جوار ابنه في حين أخذ الجنود يسألون الطفل عن أصدقائه وعن الولدين الملثّمين الذين ركضا في الشارع. وسأل الجندي الأب أيضا عن الطفلين. بعد أن مضت أكثر من ثلاث ساعات أي عند الساعة 21:30 أخلى الجنود سبيل قصي وعاد إلى منزله برفقة والده.
لقد سبق أن وثّقت بتسيلم احتجاز أطفال فلسطينيين تحت سن المسؤولية الجنائية على يد عناصر أمن إسرائيليين خلافاً للقانون. منوهة أن احتجاز طفل في العاشرة من عمره وهو مقيّد اليدين ومعصوب العينين لأية مدة زمنية كانت، أمرٌ لا يتقبّله العقل سواء رشق الطفل حجارة أم لا. وتقول إن المعاملة التي لاقاها قصي ابن العاشرة من بيت أمّر تندرج ضمن روتين السّيطرة والقمع الذي تفرضه إسرائيل على جميع الفلسطينيين في أنحاء الضفة الغربية كجزء من نظام الاحتلال.

بهدف إجبار مطلوبين على تسليم أنفسهم، اعتقلت قوات الأمن أفرادا من أسَرهم
ومن ضمن المضامين الكثيرة في “غيض من فيض” شهادات عن الملاحقات وعمليات التنكيل بالمدنيين ليل نهار. فخلال شهرَي آب وأيلول 2018، حقّقت “بتسيلم” في ثلاث منها، اعتقلت قوات الاحتلال فيها أربعة أشخاص من سكان بلدتي العيزرية وأبو ديس، شرقي القدس، من بينهم قاصرة، لكي تُجبر مطلوبين من أقربائهم على تسليم أنفسهم. في المرات الثلاثة قامت عناصر من شرطة حرس الحدود بمداهمة ليلية لمنزل الشخص المطلوب وأجرت تفتيشاً في المنزل وطالبت باعتقال الشخص.

عندما قيل لهم إنه ليس موجودا في المنزل، اعتقلت الشرطة واحداً أو أكثر من أفراد الأسرة بشكل عشوائي تماما، وأوضحت أنه سوف يتمّ إخلاء سبيله فقط بعد أن يسلّم المطلوب نفسه. وحسب شهادة “بتسيلم” قيّد عناصر شرطة الاحتلال أيدي المعتقلين -وفي إحدى الحالات حيث كانت المعتقلة امرأة عصبوا عينيها- ثم اقتادوا المعتقلين إلى معسكر لحرس الحدود قرب بلدة أبو ديس، وهناك أبقوهم في الساحة دون اكتراث لسنّهم أو وضعهم الصحي، ورفضوا تقديم طعام أو شراب لهم. وحين اشتكت إحدى المعتقلات من شدّة القيد على يديها، رفض عناصر الشرطة تخفيف القيد ولو قليلا، وكما رفضوا السماح لمعتقليْن آخرين بالذهاب إلى المرحاض لقضاء حاجتهما.

اعتقال الزوجة
في شهادة أخرى يتضح أن هيام صالح (37 عاما) وزوجها أحمد صالح (39 عاما)، من سكان أبو ديس ولديهما ثلاثة أولاد تتراوح أعمارهم بين 6-11 عاما. يعمل الأب حارساً في جامعة القدس، والأمّ مريضة سرطان. تسكن الأسرة في منزل في الطابق الثالث في بناية من ثلاث طوابق، في الطابق الأول يسكن والد أحمد، عادل صلاح (64 عاما) وزوجته، وفي الطابق الثاني كان يسكن شقيق عادل صالح، ولكنه انتقل للسكن في مكان آخر.

في 3-9-2018 ونحو الساعة 2:30 قبَيل الفجر، بينما كانت هيام والأولاد نيام، وأحمد في عمله بجامعة القدس، داهم منزلهم نحو عشرة من عناصر الشرطة. استيقظت هيام مذعورة لسماع طرقات على باب المنزل. حين فتحت الباب أمرها عناصر الشرطة بالدخول مع أولادها الثلاثة إلى الصالون، ثم انتشروا في أنحاء المنزل ومكثوا نصف ساعة تقريباً في انتظار عودة أحمد. ونحو الساعة 4:00 فجرا دخل إلى منزل الأسرة ضابط من القوات الخاصة “يسام” وقد جلب معه والد ووالدة أحمد.

في هذه المرحلة أجرى عناصر الشرطة تفتيشاً في المنزل استمر نحو ساعة، قلبوا خلالها محتويات المنزل رأساً على عقب، كما أجروا تفتيشا في المنزل الخالي في البناية نفسها. وتتابع “بتسيلم”: “لدى إنهاء التفتيش أبلغ العناصر هيام أنهم سوف يعتقلونها إلى أن يسلم زوجها نفسه. حاول حماها عادل، أن يشرح لعناصر الشرطة أنها مريضة سرطان وأن عليها البقاء مع الأولاد ولكن دون فائدة. اعتُقلت هيام واقتيدت إلى معسكر حرس الحدود في أبو ديس، حيث احتجزوها حتى الساعة 7:00 صباحا. يُذكر، أن زوجها أحمد صالح، لم يسلّم نفسه للشرطة”.

تخويف بالكلاب
ومن ضمن ” القصص الروتينية ” الواردة في “غيض من فيض”: “في يوم الاثنين الموافق 7-5-2018، عند الساعة 4:00 فجراً، وصلت قوة من عشرة جنود وكلبَي هجوم إلى مخيم جنين للاجئين. اقتحم الجنود منزلين بالقوة، أيقظوا السكّان وقلبوا محتويات المنزل رأساً على عقب واعتقلوا شخصين. وصل الجنود في البداية إلى منزل عائلة يعقوب في حي الهدف، حيث يسكن كل من زهرة يعقوب (85 عاماً)، وولدها صالح (44 عاماً) وزوجته صباح (40 عاماً) مع أولادهم الثلاثة، أصغرهم فتاة في سن الـ17.

طرق الجنود الباب وعندما فتح صالح اندفعوا بقوّة وأطلقوا كلابهم على الزوج والزوجة. أوقعت الكلاب صباح أرضا وفقط عندئذٍ تدخل الجنود وسيطروا على الكلاب. ركل أحد الجنود صباح وهي ملقاة على الأرض وأخذ يدفعها في اتجاه غرفة النوم. تدخل صالح وأخذ يسحب زوجته نحو غرفة النوم كما أعان والدته المسنة على الوصول إلى الغرفة نفسها. وفيما الثلاثة في الداخل، وقف جنديان عند باب الغرفة ومنعوهم من الخروج. في هذه الأثناء أجرى الجنود تفتيشاً في بقية غرف المنزل واعتقلوا أحد الأبناء عبد الرحمن (20 عاماً) ويعاني من إعاقة عقلية. كبّل الجنود يدي عبد الرحمن بأصفاد بلاستيكية واقتادوه إلى الغرفة التي احتجزوا فيها والديه وجدته لكي يودّعهم. بعد ذلك عصبوا عينيه وغادروا وهم يقتادونه”.

وتخلص بتسيلم في “غيض من فيض” للتنبيه إلى أن الاحتلال يسيطر على كل أبعاد حياة الفلسطينيين، وينعكس في وقف عمل الأب في أراضي 48 بعد استشهاد ابنه لأسباب أمنية . كما تنبه إلى تغير الكثير من الأمور في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ تأسيس “بتسيلم” لكن الجوهر بقي على حاله: تفرض إسرائيل نظاما عسكريا وحشيا يسلب ملايين البشر حقوقهم الأساسية ويتحكم بهم وبحياتهم.

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - وكالات