محمود سامي باشا البارودي(1839-1904) رائد الحركة الشعرية التي ظهرت في العصر الحديث ، ونعني بها مدرسة الإحياء والبعث ، وهي المدرسة التي انتهج بها البارودي - ومَن تبعه من الشعراء العرب - المنهج الكلاسيكي القديم الذي يلتزم فيه النظم على نهج الشعر العمودي في عصور ازدهاره ، منذ العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي– الأموي ، إلى نهاية العصر العباسي. ومن سمات البارودي – ومدرسته - أنه حافظ على النسيج الشعري القديم في بناء القصيدة ، فالتزم الموسيقى الداخلية بانتقاء الألفاظ ذات الجَرْس الموسيقي الخفي ، والتزم الموسيقا الخارجية فتقيد ببحور الشعر المعروفة، والقافية الواحدة في كل قصيدة . ونراه ترسَّم خُطى الشعراء القدماء فيما نظموه من أغراض شعرية متعددة، وقلَّد فحولهم وعارض كبارهم حتى صار فارساً صوَّالا جوَّالا في كل الميادين، فنظم في الغزل والوصف والمديح والرثاء وحب الوطن والدفاع عنه، كل ذلك في لغة عربية فصيحة، وقد تحاشى الألفاظ الحوشية والدخيلة الركيكة التي أضعفت الشعر حينذاك . وقد نأى البارودي بنفسه عن الأغراض الشعرية التي تأخذ طابع المجاملات ، فلم يُهلل لخديوي ، ولم يُطبل لزعيم ، ولم يتزلَّف لحاكم، ولم يتغنَّ بأحد الباشوات الذين يحكمون البلاد ويتحكمون في العباد، هكذا كان البارودي الذي ما عاش إلا عالي الهمة عزيز النفس، ولم يكن ولاؤه إلا لله ثم الوطن.
فالبارودي إذاً شاعر فريد في حالة فريدة ، حين تفرَّد في انقلابه على الواقع الشعري المهلهَل الذي انهكه شعراء المناسبات والمجاملات الذين جاءوا بأشعار رخيصة في قيمتها، صطحية في معانيها ، ركيكة في ألفاظها ، ضعيفة في بنائها وتراكيبها ؛ وخاصة بعد أن تسللت إليها الألفاظ التركية الدخيلة . فجاء البارودي وأعاد للشعر العربي هيبته وجزالته وقوته وتعدد أغراضه بالتزامه البحور الشعرية والقافية الواحدة في كل قصيدة. وكان أميز ما يميز البارودي هو قدرته على الجمع بين الأصالة والتجديد، والقدرة الفائقة على الاتصال بماضينا الحضاري العريق وربطه بحاضرنا عن طريق الوعي القومي . فحين ارتفع صوته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان شعراء العربية في تلك الفترة نياماً ، لا يحسنون إلا شعر المجاملات والمناسبات ، فهذه قصيدة في عرس ، وتلك في طهور ، وأخرى في ميلاد ، أو في توديع مسافر أو في استقبال عائد أو بشفاء مريض أو بعزاء ميت . ولكن البارودي صقل عقله وشحذ قريحته بقراءة دواوين الشعراء القدامى وحفظ كثيراً من أشعارهم حتى أَلِفَ لغتهم وتعبيرهم ، وتقوَّى باطلاعه على التراث العربي الجيد والمجيد ، ثم انطلق بعد ذلك على غِرارهم، بل تحدَّاهم بتقليدهم ومعارضتهم، وأثبت لهم أنه قادر على ما كانوا عليه قادرين، ولا ننسى فضل القرآن الكريم وأثره في لغة البارودي وشاعريته . فاستمد إذاً رصانته من تراث القدماء ودواوينهم ، مضيفاً إليه روح عصره الحديث بما فيه من تيارات فكرية ونهضة أدبية ، فجاء شعر البارودي حياً قوياً في ألفاظه ، متيناً في أسلوبه ، صافياً رائقاً في صوره وأخيلته ، شريفاً عفيفاً في معانيه، مُشرقاً في ديباجته ، جَزِلاً في عباراته ، ولم يُنسِه كلُّ ذلك أن يتحرر في أسلوبه من تكلف الصنعة، والتكثير من البديع والإغراق فيه ، وكان أيضاً يتجنب الرمز والغموض فيه.
ومن الحكمة أن نذكِّر القراء الأعزاء أن البارودي تخرَّج في الكلية الحربية برتبة ضابط، واشترك في عدد من الحروب ، وتدرج في المناصب من ناظر الجهادية (وزير الحربية) إلى رئيس وزراء مصر، وقد وقف بجانب أحمد عرابي في ثورته سنة 1882ضد الخديوي توفيق وضد التدخل الأجنبي. وبعد أن فشلت الثورة أُبعد البارودي عن مصر إلى منفاه في سرنديب (سيريلانكا اليوم) ، وهناك عاش في قسوة الغربة ، فالتهب حنينه إلى الديار والأهل والصِّحاب ، فجادت قريحته بأحلى الأشعار، فاستحق أن يوصف برب السيف والقلم . وفي منفاه قال أغلب شعره الذي اشتعل بالحنين إلى الوطن وبالذكريات التي لا يمحوها فراق. قال في وداع الوطن قصيدة طويلة(من البحر الطويل) ، نذكر منها بعضها، وبدأ بمطلعها:
محا البينُ ما أبقتْ عيونُ المها مني *** فشِبتُ ولم أقضِ اللُّبانةَ من سِني
عناءٌ ، ويأسٌ ، واشتياقٌ ، وغُربةٌ *** ألَا شَدَّ ما ألقاهُ في الدهر من غَبْنِ
فإنْ أكُ فارقتُ الديار، فلي بها *** فؤادُ أضلَّتْهُ عيونُ المها مِني
بعثتُ به يوم النَّوى إثرَ لحظَةٍ *** فأوقعهُ المقدارُ في شَرَكِ الحُسْنِ
فهل مِن فتىً في الدهرِ يَجمعُ بيننا *** فليس كلانا عن أخيه بمستغْنِ
ولمَّا وقفنا للوداع ، وأسبلتْ *** مدامعُنا فوق الترائب كالمُزْنِ
إلى أن يقول:
وكُن رجلاً ، إن سِيمَ خَسفاً رَمَتْ به *** حَمِيَّتُهُ بين الصوارمِ واللُّدْنِ
فلا خيرَ في الدنيا إذا المرءُ لم يَعِش *** مَهِيباً ، تراهُ العَينُ كالنار في دَغِنِ.
في هذه المناسبة العطرة ، نهيب بشعراء القصيدة النثرية – التي لا تُسمن ولا تغني من جوع - وأدعوهم أن يعتكفوا غداً الخميس 12/12 ومعه يوم الجمعة ، في بيوتهم أو في المكتبات العامة ، ويَنْكَبُّوا على قراءة ما تيسر من أشعار البارودي ، ويطيلوا النظر فيها ، ويداوموا على حفظها حتى تكفيهم المؤونة ، فقد يستلهمون منها ما ينفعهم ويصقل قريحتهم، ويأخذ بأيديهم لعلهم يكونون قريباً شعراء بحق. فليس كل من (رصف) بعض الكلمات وصفَّفها وتلاعب قليلا بالألفاظ وزينها، وجاء بالجناس أو تصادف معه الجناس في آخر كل جملتين ، يتوهَّم نفسه أنه صار شاعراً ، هكذا بلا قراءة أشعار القدماء وبلا اطلاع على التراث ، وبلا تدريب وصقل وتقليد. إنهم يخطئون حين يظنون أنفسهم كذلك ، ولكن كلا وألف كلا! فكيف يصيرون شعراء وهم يفتقدون قوامات الشعر، ولا يحسنون العوم بين أمواج بحوره الهادرة، فهم إن فعلوا تقطَّعت أنفاسهم وخارت قواهم ، وكانوا من المغرقين . رحم الله البارودي وإني لأضع وردة على قبره ، وثلاث أَخر لشوقي وحافظ ومطران ، وقد يأتي بعدي من يزرع حديقة ورد لتكفي شعراء العربية وأدبائها الآخرين . رحم الله مدارس زمان ومناهج زمان التي كانت تعجُّ بهم، ويبدو أنها كانت سبباً في نجاح تلك الأجيال في كل الميادبن. أما مناهج هذه الأيام والمقررات الدراسية فيها لا تسعف أجيالنا الحاضرة أن يكونوا كُتَّاباً وشعراء مجيدين. والسبب في هذا الانحطاط المعرفي هو انحطاط المناهج ، وتدني المقررات الدراسية ، وبالتالي تتدنى كل مناحي الوعي الوطني والقومي في أجيالنا . فمصممو المناهج تبهرهم أضواء الغرب الأوروبي ، ويأتون بطرق مستوردة لزراعة العقول في تربة ليست لها، من هنا يكمن الفشل . لهذا نهيب بوزارة التربية والتعليم ، ونتزلَّف لمهندسي المناهج ومصممي أزياء اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم المدرسي أن يعودوا إلى الأصالة والتراث الحضاري واستحضار حب الأوطان وترسيخ مفاهيم الوحدة الأمة العربية ، بتعريف الأجيال الحاضرة بشعرائها العرب وبأدبائها شرقيهم وغربيهم، وبدراسة نتاجاتهم . إن أمامي كتاب النصوص الأدبية للصف الثاني الإعدادي(نظام جديد) منهاج مصري كان مقرراً على الطلاب للعام الدراسي 1959- 1960 فيه نصوص أدبية وقصائد شعرية لكثير من شعراء الوطن العربي. فتعال معي اليوم إلى طالب الثاني الثانوي أو طالب التوجيهي وأسأله : هل تعرف شيئاً عن الشاعر علي محمود طه ، أو معروف الرصافي أو محمد الفيتوري أو أبي سَلمى؟ . الجواب عندكم يا سادة ، وأخاله النفي. فالتقصير ليس من الأبناء، وإنما من آبائهم ومربيهم والقائمين على أمانة وزارة التعليم الفلسطيني، ومهندسي المناهج ، ولجنة اختيار المقررات الدراسية . فالصغير سيكبر والوطن سيصغُر بكم، ولن يغفرا للكبير تقصيرَه وعبثَه . أما أبناؤنا فلهم الله ؛ يتولاهم برعايته ويتولانا برحمته .*اه.
للكاتب الصحفي/عبدالحليم أبوحجاج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت