«الصفقة» إلى عامها الثالث

بقلم: معتصم حمادة

معتصم حمادة

 بعد عامين من السياسة الانتظارية بدأ موقف السلطة من صفقة القرن بالتآكل
 ■ مع نهاية هذا العام، تكون «صفقة القرن» (صفقة ترامب – نتنياهو) قد دخلت عامها الثالث، ومازالت تداعياتها وآثارها تنطبع على مسار القضية الوطنية الفلسطينية، وعلى الأوضاع الإقليمية، وعلى تطور العلاقات بين دولة الاحتلال وإدارة ترامب. فبعد أن «حسمت» إدارة ترامب بعض القضايا الكبرى العالقة، في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تتجه نحو الكشف عما يسمى بـ«الشق السياسي»: فالقدس عاصمة لإسرائيل، وبدأت بعض السفارات تنتقل إليها في تكريس «واقعي» لطبيعة المدينة، في الوقت الذي تستعجل فيه إدارة الاحتلال تغيير ملامح المدينة، بمشاريع سياحية ذات طابع إسرائيلي، ومشاريع استيطانية لاستجلاب المزيد من اليهود، وطرد المزيد من الفلسطينيين، وإضعاف أكثر فأكثر البنية المجتمعية الفلسطينية، من خلال إغلاق المؤسسات التربوية والصحية والثقافية والخدمية الفلسطينية، الرسمية التابعة للسلطة الفلسطينية وحكومتها، والمجانية التي يديرها ناشطون للتخفيف من وطأة الاحتلال وحصاره للقدس، والفصل بينها وبين عمقها الفلسطيني في البلدات المجاورة، إلى جانب خطوات تراكمية لتهويد الأقصى، ومشاريع تشريعية لمنع «الوكالة» (الأونروا) من العمل في القدس الكبرى، أي حرمان الفلسطينيين من خدماتها في سياق الشطب التدريجي والتفكيك المنهجي لقضية اللاجئين، وإسقاط حق العودة.
 والاستيطان، هو الآخر تلقى دعماً غير مسبوق حين اعترفت إدارة ترامب بشرعيته القانونية، والاحتلال سقط عنه طابعه القانوني وتحول من كونه انتهاكا للشرعية الدولية والسيادة الفلسطينية إلى «مجرد وجود» في الضفة الفلسطينية، التي باتت تحت قوة دفع صفقة القرن (صفقة ترامب – نتنياهو) «أرض إسرائيل» تتأهب الدوائر الصهيونية للإعلان عن ضم الأجزاء الواسعة منها لإسرائيل. أما الجولان فقد بانت وفق المعايير الأميركية وسياسة فرض الأمر الواقع، جزء من دولة الاحتلال. أما قضية اللاجئين، وحق العودة، فما زالت تحت نيران القصف المعادي للدبلوماسية الأميركية، عبر فرض الحصار المالي عليها والدعوة إلى تفكيكها، عبر حل الوكالة، وإسقاط الصفة القانونية عن اللاجئين الفلسطينيين.
 * * *
 على الصعيد الإقليمي، تمظهرت صفقة ترامب – نتنياهو، خلال السنتين الماضيتين، بشكل شديد الوضوح، وإلى جانب إعادة النظر بمعايير العلاقات الإقليمية، وإعادة توزيع المواقع والأدوار، ونقل إيران من دولة جارة للدول العربية إلى مصدر خطر على مصالح المنطقة، انفتحت على مصراعيها أبواب ترسيم العلاقات مع إسرائيل في بعض الأنظمة العربية، أطلقت صفارة الانطلاق في هذا المضمار، ورشة البحرين، التي حققت أهدافها الإقليمية حين جمعت الصف العريض من الأنظمة العربية وغيرها، ووضعت جدول أعمال «الحل الاقتصادي» عبر مشاريع تنموية، منها للفلسطينيين، ومنها للدول العربية المجاورة (ما عدا سوريا) في تكرار فاضح للعبة أوسلو، لكن هذه المرة بأوزان ثقيلة لزرع الوهم بأن «السلام الأميركي – الإسرائيلي» هو من يأتي بالرخاء للفلسطينيين (وليست حقوقهم التي يتحدثون عنها بموجب الشرعية الدولية) ويأتي بالرخاء للدول العربية المجاورة، ما يحتم عليها الانفتاح أكثر فأكثر، على إسرائيل، والاستتباع أكثر فأكثر للسياسة الأميركية.
وبات مشهد مشاركة الوفود الإسرائيلية في اللقاءات «الدولية» في العواصم العربية، الرياضية منها والثقافية والاقتصادية وغيرها، وبات عزف نشيد «هاتكفاه» يعزف تحت السماء العربية باعتباره نشيداً لطرف صديق، وأخذت المشاريع الكبرى تتوالد، كخط سكة الحديد بين قلب الجزيرة العربية نحو الساحل الفلسطيني (في قلب دولة الاحتلال)، ومشروع المعاهدة الأمنية الإسرائيلية (ضد إيران بالطبع!) والمشروع الإسرائيلي المطروح على إدارة ترامب أن تتبناه، للتعجيل بترسيم وتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع الأنظمة العربية، في استغلال لفرصة وجود ترامب في البيت الأبيض، وقبل أن يدخل على وضع الإدارة الأميركية أي تطور، لا ترى إسرائيل أنه يخدم مصالحها القصوى، كما رسمتها «الصفقة».
* * *
وصفت السلطة صفقة ترامب أنها «صفعة»، ليس فقط لما ورد فيها من مشاريع حلول، بل وكذلك لأنها أسقطت رهانها على المفاوضات تحت الرعاية الأميركية خياراً وحيداً. لذلك لم يكن مستغرباً أن تخلص السلطة إلى القول إن الإدارة الأميركية لم تعد راعياً نزيهاً للمفاوضات. ما معناه، التمسك بخيار المفاوضات، سبيلاً وحيداً للحل، مع البحث عن راعي بديل، في الوقت الذي تدرك فيه السلطة أن الرعاية الوحيدة المؤهلة كي ترعى « الحل التفاوضي الثنائي» تحت سقف أوسلو، وخارج إطار قرارات الشرعية الدولية هي الولايات المتحدة.
وأن الحديث عن «راعي» جديد يتطلب تقديم صيغة بديلة للحل، تتجاوز الدور المنفرد للولايات المتحدة، أو لغيرها، وتعيد القضية إلى الشرعية الدولية في مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة. السلطة رفضت «صفقة القرن» (بعد أن طالبت مطولاً واستعجلت مطولاً الكشف عنها) لكن رفضها للصفقة بقي في إطاره الكلامي لم يتجاوز بيانات الاستنكار، والإدانة، والتنديد وغيرها، دون أن تتقدم هذه البيانات خطوة واحدة نحو عمل ميداني، يتصدى لمفاعيل الصفقة وإجراءاتها وتطبيقاتها.
حتى العلاقة مع الإدارة الأميركية بقيت إنتقائية ولم تقطع بالكامل، إذ حافظت السلطة على قناة اتصال مع إدارة ترامب عبر «التنسيق» مع المخابرات الأميركية ضد «الإرهاب»، الذي لم تقدم السلطة حتى الآن للشعب ما هو الإرهاب الذي يتم التنسيق مع المخابرات الأميركية ضده. حتى تصريحات الاستنكار والإدانة، لم تلق بالاً من الولايات المتحدة ولا من إسرائيل. وفي الوقت الذي كانت تتوالى فيه البيانات الرسمية كانت خطوات تطبيق الصفقة تمضي قدماً؛ غير آبهة بغضب السلطة أو بلجانها الثماني التي شكلتها لوقف العمل بالاتفاقيات فيما لو استمرت إسرائيل في ضم الأراضي الفلسطينية.
وهكذا بدأ هذا الرفض، العاجز عن التقدم إلى مربع التنفيذ والتطبيق، يتآكل حتى أنه فقد مصداقيته في أعين الفلسطينيين، فضلاً عن العواصم العربية والدوائر الدولية، حتى الحديث غن العودة إلى «حل الدولتين» نفسه، بات خجولاً، في ظل فجاجة السياسة الأميركية وفظاظة الأداء الإسرائيلي وتغوله وتطرفه. تحاول السلطة أن تعزي نفسها بما اتخذته الأمم المتحدة من قرارات لصالح القضية الوطنية، وفي مواجهة صفقة ترامب، وتدعي أن هذه القرارات هي من ثمار الدبلوماسية الفلسطينية الناجحة (!).
بل وتذهب إلى أبعد من ذلك بالادعاء أن السياسة التي اتبعتها قيادة السلطة أفشلت صفقة ترامب. مثل هذه الإدعاءات تحمل في طياتها إدانة للسلطة نفسها مرة لأنها تجاهلت التطور الإيجابي في الموقف الدولي وأحجمت عن البناء عليه في خطوات عملية لصالح القضية الوطنية. وبالتالي هدرت أكثر من فرصة. ومرة ثانية لأنها تحاول أن توهم الشعب أنها حققت النصر على صفقة ترامب، في الوقت الذي يرى المواطنون بأم العين تقول الصفقة وتقدمها إلى الأمام في القدس والخليل وأنحاء الضفة الفلسطينية. وهو من شأنه أن يباعد أكثر فأكثر بين المواطن وبين السلطة، وأن تفقد السلطة ثقتها أكثر فأكثر في أعين المواطنين، وأن تزيد الإحباط في صفوفهم. لذلك لا يحق للسلطة أو من يواليها أن يحتج أن تجاوب الناس مع الدعوة لمظاهرة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني كان ضعيفاً■

 معتصم حمادة

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت