يتحدث تقرير إسرائيلي عن 150 مليار دولار كقيمة أولية للممتلكات التي تركها اليهود العرب والإيرانيون وراءهم عند مغادرتهم بلادهم والتحاقهم بالدولة العبرية في فلسطين. والمفارقة أنه لكثرة ما ورد في التقرير من عبارات مثل «طردهم من بلادهم» و«لجوئهم» و«الظلم التاريخي»، الذي لحق بهم، يخال القارئ نفسه أمام فصل من فصول المأساة التي لحقت بالشعب الفلسطيني إبان نكبته الكبرى.
والتقرير هذاـ بحسب الصحف العبرية ـ أعده فريق إسرائيلي اشتغل على «مشروع سري» هدفه الوصول إلى تقدير قيمة هذه الممتلكات، ومن المفترض أن يقدم إلى بنيامين نتنياهو، الذي تابع بإحباط مسار تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرارات لصالح حقوق الشعب الفلسطيني، ومن بينها تجديد تفويض «الأونروا» لمدة ثلاث سنوات، ربطا بحيثيات قرار تأسيسها الصادر في العام 1949.
التقرير زاخر بمفردات الخطاب الذي اعتادته الدولة العبرية في سياق إنكار الحقائق الدامغة، واستبدالها بنسق متكامل من الكذب والتضليل. لا يخفي معدو التقرير وظيفته ومغزى توقيته، وإن كانوا أغرقوه بسيل من عبارات «التعاطف» والتباكي على هذا« الفصل المأساوي في تاريخ اليهود العرب والإيرانيين» وطالبوا في سياقه بإعادة «مكانتهم المنسية في السرد التاريخي للدولة الفتية، التي قامت بالتوازي مع لجوئهم».
وحول وظيفة التقرير، أشارت صحيفة «إسرائيل اليوم» إلى أنه تم تفعيل هذا المشروع في العام 2002 ، وفق تقدير أنه «من أجل أن تكون أي عملية سياسية موثوقة ودائمة، من الضروري ضمان حصول جميع اللاجئين في الشرق الأوسط على معاملة متساوية بموجب القانون الدولي»، وأن «أي نقاش حول حقوق اللاجئين الفلسطينيين سيقابله نقاش مماثل، فيما يتعلق بحقوق اللاجئين اليهود من الدول العربية».
وهذا يعني انتقال الخطاب الصهيوني الذي كان يتحدث بقوة عن «حق العودة» لليهودي حصرا وإلى فلسطين بالتحديد، إلى خطاب يصف «اليهودي العائد» بـ«اللاجئ» ،المطرود، الذي ينبغي أن يلتفت المجتمع الدولي إلى مأساته ويعوضه عن ممتلكاته التي نهبها العرب والإيرانيون! ومن الواضح أنه مع بدء مفاوضات التسوية عقب اتفاق أوسلو، وربما قبل ذلك، أن دولة الاحتلال جهزت ملفاتها المتصلة بقضايا الحل الدائم، ومن بينها طبعا ملف اللاجئين الفلسطينيين، وعمل الجانب الإسرائيلي في هذا المجال وفق مسارين متصلين ومتكاملين.
* المسار الأول: يتصل بتهميش قضية اللاجئين مستفيدا من تغييب قرارات الشرعية الدولية عن أسس التسوية، ومستفيدا أيضا من توزع قضايا الحل الدائم على عدة مسارات تفاوضية منفصلة عن بعضها البعض. وكلا الأمرين مكناه من تجميد الملف برمته باستثناء المحاولات التي كان يبذلها للحصول على تنازل من قبل المفاوض الفلسطيني في قضية اللاجئين تحت يافطة المقايضة مع تسهيلات بخصوص البحث في مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة وموضوعة الدولة المستقلة التي بقيت إمكانية قيامها تتآكل مع اتساع الاستيطان وحملات التهويد. وضمن هذا المسار أيضا، استند الجانب الإسرائيلي إلى الموقف الأميركي المتطابق معه تجاه قضية اللاجئين، وضغط باتجاه فرض مبادرات تنتقص من دور «الأونروا» تمهيدا لشطبها ، إلى جانب محاولات إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني بعيدا عن تعريفه القائم من قبل الأمم المتحدة، وبالتالي نزع مكانته القانونية والسياسية التي منحنه إياها قرارات الشرعية الدولية وخصوصا القرارين 194، و302 الذي أنشئت بموجبه «الأونروا».
* المسار الثاني، وبدأ مبكرا بعيد قيام الدولة العبرية، في إطار الخطاب الذي يتحدث عن ممتلكات اليهود الذين غادروا الدول العربية وهاجروا إلى فلسطين. ومنذ ذلك الوقت، كلما جرى الحديث عن مسؤولية الدولة العبرية في نهب ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين، يرفعون الصوت في الحديث عن أملاك اليهود، مع أنه لامجال للمقارنة، بين لاجئ فلسطيني طرد بالقوة العسكرية الغاشمة من أرضه وممتلكاته وتم الاستيلاء عليها من قبل دولة الاحتلال، وبين اليهودي الذي قرر الالتحاق بالمشروع الصهيوني عبر مغادرة بلده والاتجاه نحو فلسطين المحتلة. وإذا كان من وظائف الحديث الإسرائيلي عن ممتلكات اليهود هو إيجاد مقابل صهيوني لمطالب اللاجئين الفلسطينيين الشرعية في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم في حال طرحت في المفاوضات، فإن الوظيفة اليوم تتجاوز هذه المسألة مع إقفال باب التسوية واختفاء مشهد التفاوض.
ونلحظ من تعليقات الصحف العبرية حول التقرير أنها ربطت بعض وظائفه بالقرار 185 الذي كان الكونغرس الأميركي قد اتخذه في العام 2008، ويؤكد مبدأ التماثل في موضوعة أملاك اليهود المغادرين لبلدانهم العربية مع حقوق اللاجئين الفلسطينيين الشرعية في أرضهم وديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها. ويقدم الفريق الإسرائيلي الذي أعد الطريق تقديرا لقيمة ممتلكات اليهود في عدد من الدول العربية وفي إيران.
ويشير الفريق إلى أن المبالغ المذكورة في هذا التقرير «أولية»، ومن الواضح أن هذه المبالغ الكبيرة ستستخدم في بورصة ابتزاز أطراف عربية مختلفة في حال سنحت للدولة العبرية وحلفائها الفرصة. ومن المفيد أن نذكر أنه على الرغم من أن هذا الملف كان قيد المتابعة الإسرائيلية منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أن توقيت الإعلان عن التقرير المذكور ووضع المجتمع الإسرائيلي أمام معطياته، وتقديمه إلى نتنياهو ليس بعيدا عما يجري في المشهد السياسي والحزبي الإسرائيلي من استعصاء على جبهة تشكيل الحكومة.
ومن الطبيعي أن يسعى نتنياهو إلى توظيف هذا التقرير لصالحه في سياق التنافس مع جدعون ساعر على رئاسة الليكود، وفي سياق التوجه نحو انتخابات ثالثة للكنيست. وربما يجد نتنياهو وسواه من المنافسين في هذا التقرير مشروع إلهاء عن الأصداء القوية للحقوق الوطنية الفلسطينية في قاعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحالية، مع المصادقة على عشرات القرارات الأممية وبأغلبية كبيرة لصالح هذه الحقوق.
وهذه مناسبة للتأكيد على ضرورة استثمار هذا الالتفاف الدولي حول حقوقنا وتكريس الأمم المتحدة ميدانا أساسيا من ميادين مقارعة الاحتلال. وهذا يعني تحكيم المجتمع الدولي ـ ربطا بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلةـ بوقائع الصراع مع الاحتلال وما يرتكبه من جرائم موصوفة بحق أبناء الشعب الفلسطيني وممتلكاته. وقد أكدت على ذلك قرارات المجلسين الوطني والمركزي ودعت إلى تفعيل عضوية فلسطين في المؤسسات الدولية ذات الاختصاص بمحاكمة الاحتلال على جرائم القتل والاعتقال والاستيطان ونهب الأراضي والتطهير العرقي.
محمد السهلي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت