الاموات الباقون وهم الاحياء .... والاحياء الغائبون وهم الاموات ....معادلة بحكم تجربة وسياق حياة لا يشعر بها الا من فقد عزيزا غاليا وشخصا مؤثرا في نشأته وتربيته ..طفلا وشابا . لا استطيع أن اتجاوز هذا التاريخ وكأنني أنتظره لحظة بلحظة باعتباره ليس يوما عاديا في سلسلة تاريخ حياتنا وأيامنا العابرة هناك من التواريخ التي تحمل بطياتها ومعانيها الكثير من المعاني والتي ستبقي أبد الدهر راسخة في الوجدان وماثلة في العقول وساكنة في القلوب ننتظرها ونعد لها لأنها لحظة شيء عظيم ...نريد أن نقول فيها ما يجيش بداخلنا ...وما يعتصر قلوبنا وما نشعر أنه احساس يجب أن نبذله ...ودرسا لنا ولغيرنا من أجيالنا لنتعلمه ونهتدي بهديه . تاريخ فيه من العظمة والفخر والاعتزاز ..... كما فيه من ألم الفراق والحرمان لكنه يوما من أيام حياتنا نتوقف أمامه لنقول لمن حولنا من أبنائنا وأحفادنا اهلنا واصدقائنا ولكل المحبين والعاشقين لتراب هذا الوطن ولمن عرفوا وتعرفوا وحتى تكون لحظة صدق وأمانة نعيشها بكل تجلياتها ومعانيها لنقول بذكري فقدان والدنا بأنه لم يكن يوما عاديا بل كان يوما استثنائيا مليئا بالكثير مما يمكن قوله...وما يمكن اخفائه وعدم التصريح به .
بمثل هذا التاريخ من كل عام .. وبقدر استطاعتي وظروفي ... وما تحمله ذاكرتي وما يجيش بعواطفي وما يسكن قلبي ... وبمدى حرصي وتأكيدي ان لا افوت الفرصة والذكرى دون ان اكتب واسطر بكلماتي جزء من حياتي وذاكرتي ... وما استمعت اليه من مواقف وكلمات لا زالت تعشعش بذاكرتي حول خلاصة تجربة غنية ورائعة فيها من الحزن والالم .... كما فيها من الامل والنجاح .... والتي احاول من خلالها ان تكون وفاءا مني لوالدي وتجربة متواضعة لابنائي وللاجيال الشابة ودرسا تاريخيا باستخلاصات الحياة وظروفها .... وحتى اساهم بقدر استطاعتي في خلع ظروف الاحباط وازاحة شماعة اليأس والظروف ..... وحتى اساهم بزرع نبتة قناعة العمل وتجاوز الصعاب والمحن وعدم الاستسلام للظروف والعقبات ... وعدم التهاون أمام الحقوق وصلابة الموقف ... والتمسك بالقناعة بما يجب فعله دون حسابات صغيرة او كبيرة ... والاعتماد اولا على رب العزة والجلالة خالق العباد ورازقهم والمتكفل بهم ... وفي ذات الوقت استمرار السعي وبذل الجهد للبحث عن مصادر الرزق الحلال بكل جد واجتهاد وارادة خالصة وثقة عالية ... وبعيدا عن كل اتكالية واعتماد على الاخرين .
والدي رحمه الله عليه وبذكرى وفاته التي تصادف اليوم العشرين من شهر ديسمبر من العام 82 ... تفرض ذكراه ان اتحدث عنه بعاطفة الابن وبعقل الاب وبمسؤولية وامانة المهنة الاعلامية وما تتطلبه من زرع الافكار والاجتهادات والايمان بأنه ليس هناك مستحيلا في هذه الحياة ... بل كل شئ ممكن ومتاح وبقدر ما قسم للانسان . والدي صالح ابراهيم زنداح طافش من مواليد مدينة العريش المصرية وابن لعائلة كبيرة تسكن حي الزيتون بمدينة غزة .. عاش طفولته بينما كان فاقدا للاب الذي قتل في موقف شجاع وهو يدافع عن جيرانه وملبيا لاستغاثتهم وحتى يقوم على انقاذ امرأة كانت مهددة ... حيث قتل غدرا من لص سارق والذي لقى حتفه ومصيره وبصورة سريعة من قبل عائلة المغدور .
كان طفلا جميلا ذكيا محبا للتعليم .. واجتماعيا الى درجة عدم التفريق ما بين الديانات ... كان دائم الحضور والتفاعل في المستشفي الانجليزي (المعمداني) بمدينة غزة مما لفت الانتباه واثار مخاوف الوجهاء الذين اسرعوا بنقله الى القدس حيث مدرسة الايتام الاسلامية التي عاش فيها وتربى بداخلها وتعلم حتى وصل به الحال الى العمل داخل القدس بصيدلية العلمي بباب العامود كما كان يعمل بعيادة المدرسة ويقوم على مساعدة الطبيب . . كان الفتى وطنيا شجاعا متفانيا بخدمة قضية شعبه وما يدبر من مخططات الانتداب والجماعات اليهودية وعمل على مساعدة الفدائيين وتقديم يد المساعدة .. ونقل ما يلزمهم من عتاد مستفيدا من طفولته وشبابه حيث واجه الموت عدة مرات دون ان يكترث بالمخاطر المحدقة به .
كتب عنه بكتاب رصيف الدموع للكاتب الفلسطيني هارون هاشم رشيد ... كان محبا وعاشقا للقدس وعائلاتها وشخصياتها وقياداتها ... كان محبا للشيخ الحاج امين الحسيني وتربطه علاقات بالعديد من عائلات القدس . غادر القدس الى غزة بالعام 47 بعد ان زادت التهديدات والعمليات الارهابية للجماعات اليهودية ... عاد الى غزة وبصحبته زوجته السورية التي تزوجها بالقدس والتي انجب منها بعد ذلك خمسة ابناء . عودته الى غزة كانت بدافع المحبة الى اهله وبلده لكنه كان متخوفا على مستقبله بعد ان عاش سنوات طويلة بالقدس بظروف مختلفة ... لكنه بعزيمته وارادته شق طريقه واخذ بناصية الاجتهاد وعدم الاتكال ... بناصية العمل والمواظبة والاستمرار في شق طريقه لاجل تحقيق اهدافه .
لم يعرف اليأس والاحباط ولم يعرف المستحيل كل شئ كان بالنسبة له ممكن التحقق بارادة العمل والاصرار وعدم اليأس . كانت شخصيته متواضعة الى حد كبير ... وكانت ثقته بنفسه لا توصف .... كان اكثر من رائع لكل من عرفه من اجياله واصدقاءه والذي ربطه بهم علاقات حميمة . كان خلوقا ومهذبا وهادئا لا يتحدث كثيرا ... لكنه كان يعمل كثيرا ... ودودا ومحبا للجميع لا يعرف الكراهية لاحد . ادرك مصاعب الحياة وقسوتها بحكم ما واجهه من حرمان وفقدان للرعاية والذي شكل بالنسبة له دافعا قويا على النجاح . عاطفته جياشة ومحبته لا توصف لكل من حوله ... كانت اهتماماته بالفقراء والمحتاجين لم تبهره مظاهر الحياة لم يبخل بواجباته ولم يتنازل عن مسؤولياته ... بل حرص على اداء واجبه بكل ثبات وقوة وايمان ... بدأ حياته من الصفر كما يقال ... عصاميا بامتياز ... بنى نفسه بنفسه ولم يكن وارثا من أحد .... ولم يعتمد ويستند الى وساطة من احد ... بل عمل بجد واجتهاد واصرار كبير حتى اصبح ناجحا ومالكا وقادرا على الحياه بكل مصاعبها وتحدياتها . لا يتحدث بالسياسة كثيرا .... كان قارئا للصحف والمجلات المصرية ومستمعا دائما لاذاعة صوت العرب من القاهرة ..... وكان محبا لمصر وسوريا بصورة كبيرة ومتابعا لكافة التفاصيل ....
كان عاشقا للقدس التي عمل على زيارتها بعد نكسة حزيران 67 وكان حريصا ان يأخذ ابناءه لكي يشاهدوا مدرسة الايتام الاسلامية التي كان يعيش فيها كما مشاهدة مكان الطعام والصلاة وكيف كانت طقوس حياته بتفاصيلها اليومية ... كانت تربطه علاقات عديدة بعائلات القدس وكان يعمل على استضافة اصدقاءه في غزة ... كان مؤمنا ان القدس عربية وستعود لاصحابها ... وان الحقوق لن تضيع ولن تسقط بالتقادم ... وان الحرية ليست مستحيلة ...
وان العبودية والاحتلال الى الزوال بذكراه نستذكر كل شئ جميل .... ونندم على كل قصور صدر منا ... ونترحم على روحه الطاهرة وندعو له بالرحمة والمغفرة وان يسامحنا اذا ما قصرنا وعجزنا عن اداءه فما قام به وما خلفه لنا وما تربينا عليه رسالة نقوم عليها بقدر استطاعتنا وبما تسمح به ظروف حياتنا برغم تقلباتها ومصاعبها وما يطرأ على الشخوص من متغيرات يصعب التعامل معها ... لكننا بالنتيجة الاخيرة .... كنا وسنبقى مثالا وقدوة من خلال ابناءنا واحفادنا ... وعلى الدرب والاهداف السامية نسير والتي عاش ومات من اجلها .... من كان له الفضل علينا ومن قام على تربيتنا وتعظيم ما بداخلنا فله الرحمة والمغفرة بذكراه الطاهرة .
الكاتب : وفيق زنداح
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت