في الرابع والعشرين من كانون الثاني العام 1984 توقف قلب الشاعر والمناضل الفلسطيني الكبير معين بسيسو عن الخفقان ، وكانت محطته الأخيرة في مدينة لندن الموشحة بالضباب.
قضى معين وحيدًا غريبًا وبعيدًا في فندق، وتحت وسادته قصيدة أخيرة في زجاجة، وتلك هي ميتة الشعراء، ومثله قضى ابن زريق البغدادي.
رحل لينشر في غزة نضالاته الممزوجة برائحة الرصاص والبارود، وليزرع في يافا والقدس وبيروت وكل عاصمة من عواصم الدنيا أغاني الحرية والعشق للوطن. رحل وهو يدرك أن آيات الحزن المحفورة على جدران السجون والزنازين في غزة والواحات الغربية ممزوجة بالعزيمة والإيمان والإصرار بطرد الوهن والإرهاق.
معين بسيسو هو تكوين تشكيلي متميز لخريطة الوطن الفلسطيني، وفارس من فرسان النضال، وعلم من أعلام الشعر والأدب الوطني الثوري المقاوم، وانموذج للشاعر الملتزم بآمال وآلام وهموم شعبه، وأدبه أدب ثوري يسعى التغيير الجذري في المجتمع والحياة.
عانق معين نور الحياة في غزة العام 1920، نشأ وترعرع بين أزقتها ومخيماتها وأحيائها، وتعلم في مدارسها، ثم انتقل ليعمل في مجال الصحافة بمدينة يافا، وأمضى حياته متنقلًا بين غزة والقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وموسكو.
في منتصف العام 1948 التحق بكلية الآداب في القاهرة، ولم يكد يستقر به المقام حتى برز في أوساط أشد المناهضين للاستعمار، وراح يشارك في النشاطات الطلابية والمظاهرات الشعبية في مصر، وطالته الملاحقة والاعتقال وحكم عليه بالسجن لمدة 3 سنوات قضاها في الواحات الغربية.
وفي القاهرة أصدر معين مجموعته الشعرية الاولى بعنوان ” المعركة ” وهذا عرضه لمطاردة السلطات هناك فهرب إلى العراق، وعمل مدرسًا، ولكونه ناشطًا سياسيًا ومكافحًا معروفًا اعتقل في بغداد ثم طردته السلطات إلى القاهرة، فعاد الى غزه، وشارك بصورة فعالة في مقاومة الاحتلال الصهيوني لقطاع غزة العام 1956، وتم اعتقاله وزج به في سجون الاحتلال حتى انسحاب القوات الصهيونية من القطاع.
مارس معين بسيسو كتابة الشعر والنثر والدراسات الأدبية. وتعتبر أعماله وآثاره الشعرية والأدبية تخليدًا تاريخيًا لمعالم نضاله وكفاحاته المتواصلة على امتداد حياته.
أعماله الشعرية هي : ” ديوان المعركة، قصائد مصرية، مارد من السنابل، الاردن على الصليب، فلسطين في القلب، الأشجار تموت واقفة، جئت لأدعوك باسمك ، قصائد على زجاج النوافذ، آخر القراصنة من العصافير، والآن خذ جسدي كيسًا من رمل، القتلى والمقاتلون السكارى، وكراسة فلسطين “.
أما مسرحياته وأعماله الأدبية فهي : ” مأساة جيفارا، ثورة الزنج، شمشوم ودليلة، المنجم، العصافير تبني أعشاشها بين اصابيع، يوميات غزة، الصفرة، أدب القفز بالمظلات، كتاب الأرض، محاكمة كتاب كليلة ودمنة، نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة “.
وفي النثر له : ” دفاتر فلسطينية، باجس أبو عطوان، وغزة مقاومة دائمة “.
ويدوّن معين في كتابه ” دفاتر فلسطينية ” مذكراته، ويتحدث عن تجربته الذاتية وتاريخ الحركة الوطنية في قطاع غزة والنضالات والنشاطات السياسية والكفاحية التي شارك فيها جنبًا الى جنب الوطنيين ضد الاحتلال. تقلد معين مراكز ومناصب أساسية ومهمات نضالية كثيرة. فكان عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني، وعضوًا في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ومستشارًا ثقافيًا لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. كما ربطته بكتاب الاتحاد السوفييتي سابقًا، علاقات حميمة، وقد تمثل ذلك في المشاركات المختلفة في اجتماعات كتاب آسيا وإفريقيا، ومن خلال رئاسته لتحرير مجلة الاتحاد.
عاش معين بسيسو حياته مناضلًا بالموقف والكلمة، وكتب قصائده بشموخ وطني، وكبرياء وجدانه، وكان أصدقاؤه يهرعون نحوه كلما كتب قصيدة جديدة، فيقرأها أمامهم، وكان حريصًا على الأناقة التعبيرية واللغوية كي تنافس قصيدته في الحسن والروعة والجمال.
وهو في مجمل قصائده يعبر عن إحساسه الوطني والطبقي وانحيازه لقضايا الوطن والشعب والثورة والقضية، ويخاطب فيها الوجدان القومي الجريح على ارض فلسطين، ووجدان كل جريح ومتألم وموجوع في مختلف أنحاء المعمورة، لنسمعه يقول :
يا أيُّها المطارَدون
لو تقدرونْ فاقلعوا
أسنانَ كلَّ نَجْمَةٍ لو تقدرونْ
لا بدَّ أنْ نواصِلَ السَّيرْ
وأنْ نواصلَ النزيفْ
فالمُسْتَحيلْ
يُصْبِحُ مَرَّةً جُرْحًا
وَمَرَّةً سِكِّينْ
حمل معين بسيسو البندقية بيد، وحمل في اليد الأخرى القيثارة ليعزف عليها ألحان الوجع والألم الفلسطيني والأمل في المستقبل، وقال الشعر وهتف به عاليًا فأصغى الوطن لأناشيده، وردد الناس من أهل فلسطين قصيده.
وقبل وفاته شارك معين في اسبوع فلسطين الثقافي، وكان حضورًا نوعيًا مميزًا، وقرأ أمامهم قصيدته ” أبدأت تحصي أضلعك “، وكان ذلك آخر حضور ثقافي له فانتصر على اللحظة وسبقها كي يمتزج بكل حبة من تراب الوطن، وهو يردد ” إن كان قلبي خفاقًا إلى أمد، قلب الجماهير خفاق إلى الأبد “.
قصائد معين بسيسو كانت خير حافز للثوار والمقاتلين في اللحظات الصعبة، وساهمت في صياغة ثقافة ووجدان شعبنا، وهي التي ستبقيه قريبًا منا ابدًا، وحاضرًا بيننا على الدوام، وسيكون هناك عندما يعانق شعبنا الحرية ويبتسم الوطن، ويبتسم أطفال المخيمات في غزة والضفة، وكل مدن فلسطين التي غنّى وانشد لها طوال عمره، وكان في كل لحظة من لحظاته قريبًا من نبض شعبه ومقاتلًا بارزًا في صفوف حركته الوطنية.
بقلم/ شاكر فريد حسن
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت