تواجه شعوبنا وأمتنا العربية انتكاسة فكرية كبرى، تتمثل بالتخلف الحضاري والانغلاق الفكري الذي تعيشه، وصعود القوى الأصولية السلفية المتشددة المتعصبة، وتعالي أصوات الظلام والعتمة وارتفاع مكانة الجهل، وتراجع صوت العقل وثقافة التنوير، وقمع ومصادرة الصوت المختلف، والاعتداء على حرية الرأي والتعبير، والعودة إلى عصور الظلام ومحاكم التفتيش، والتصفية الجسدية لكوكبة من رواد الثقافة المتنورة، أمثال د. حسين مروة، ود. مهدي عامل في لبنان، وفرج فودة في مصر.
وقد شهدنا في الآونة الأخيرة اعتداءات على حرية الفكر والتعبير، تجلى ذلك بشكل واضح ولافت في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية ، حيث قام أحد اساتذة جامعة النجاح الوطنية في نابلس بإطفاء نور الكهرباء عن عرض مسرحي في اروقة الجامعة داعمًا للمرأة بدعوى عدم ملاءمة ملابس الممثلين وحركاتهم لقيم وتقاليد المجتمع النابلسي والفلسطيني، فضلًا عن مصادرة رواية " جريمة في رام اللـه " للروائي الفلسطيني عباد يحيى، بزعم أنها تخدش الحياء العام.
كذلك واجه ديوان " ما يشبه الرثاء " للشاعر فراس حج محمد من نابلس هجمة وحملة شعواء ونكراء بالحجة نفسها " خدش الحياء العام "، حتى أن البعض رفض المشاركة في مناقشة الديوان في ندوة اليوم السابع بالقدس..!!
وهذا الحال البائس والواقع المأزوم يحتاج إلى ثورة عقلية، وتغيير جذري في المفاهيم والأفكار، والتخلص من المفاهيم العقيمة المتوارثة، فلا أمام سوى العقل – كما قال الفيلسوف العربي القرطبي ابن رشد، الذي احرقت كتبه. وذلك يتطلب مواجهة الفكر الظلامي وتعرية رموزه، والتصدي لذهنية التحريم وفكر التكفير، ونشر ثقافة العقل الوعي والمعرفة وفكر التنوير، وتجديد واستكمال مشاريع النهضة والتنمية الثقافية. وكم نحتاج في هذه المرحلة الرديئة المأزومة لمفكرين ومثقفين وفلاسفة مستنيرين ونهضويين جدد، بعد رحيل رواد الثقافة ورموز الفكر المستنير، أمثال محمود امين العالم، واميل توما، وصادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، ومحد عابد الجابري، وحسن مروة، وخليل عبد الكريم، وبرهان غليون، وزكي نجيب محمود، وسلامة موسى، والطيب تيزيني، وبو علي ياسين، وعلي عبد الرازق، ومحمد شحرور وسواهم.
وغني عن القول في النهاية، لا يمكن لثقافتنا العربية أن تنتقل إلى عصور أخرى بدون توفر الحرية العقلية، فهي أساس كل الحريات الأخرى، وبدون تفتح العقل العربي على النقد والتجاوب الثقافي مع التراث والآخر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت