تلمس كثيرون من قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي رؤوسهم منذ أن أعلنت المدعية العامة لـ«الجنائية الدولية» فاتو بنسودا، عزم المحكمة التحقيق بجرائم حرب وقعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبدأت وسائل الإعلام العبرية قبل غيرها نشر أسماء المطلوبين الإسرائيليين المحتملين للمثول أمام المحكمة وفي المقدمة الثلاثي نتنياهو وغانتس وليبرمان.. وهذا كله قبل أن تباشر المحكمة عملها.
هذا لا يعني أن المحاكمة على الأبواب. فبقدر ما يعني تصريح بنسودا من إعلان عن حضور القانون الدولي في مشهد الصراع القائم، بقد ما يشكل جرس استنفار لتل أبيب وواشنطن كي تحشدا ما تستطيعان من أجل تغييبه مجددا عن هذا المشهد.
هي معركة كبرى، أهم ما فيها أنها امتحان جديد لإرادة المجتمع الدولي في الدفاع عن القانون الذي سطره بنفسه على امتداد عمر منظمة الأمم المتحدة.
أعراض التداعيات المبكرة لقرار بنسودا ظهرت في أداء نتنياهو، الذي أوعز بتجميد مداولات حكومية مقررة سابقا حول مخططات ضم الأغوار ومناطق من الضفة الفلسطينية المحتلة، تحت دعوى «منع أي تصعيد أو مواجهة في المحافل الدولية». وهذا لا يغطي على الموقف الإسرائيلي من القرار المذكور، فقد عبر عن ذلك نتنياهو باعتبار ما صرحت به المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية «معاد للسامية». وجميع التقديرات تؤكد أن الحكومة الإسرائيلية تعمل على بلورة خطة لمواجهة قرار مدعية المحكمة الجنائية، وأن نتنياهو كان اتخذ قرارا أوليا بحصر البت في هذا الملف داخل «الكابينت»، مع فرض السرية التامة على هذه المداولات.
إطلاق النار على قرار بنسودا بدأ أيضا على يد إدارة ترامب عندما هاجم وزير الخارجية بومبيو القرار وتعهد باسم إدارته بعدم التعاون مع التحقيق. ويأتي الموقف الأميركي والإسرائيلي الواحد من قرار بنسودا من موقع الإدراك المشترك أن الملفات المعنية ببحثها المحكمة إنما تمثل جرائم حرب موصوفة وماثلة للعيان، وتتورط بها الولايات المتحدة من خلال الدعم غير المشروط الذي تقدمه إلى دولة الاحتلال بما في ذلك تزويدها باعتي الأسلحة وأدوات القتل.
أهمية إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية أولا تكمن بأنها تأتي كتعبير عن تجاوز الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي كانت من أبرز أسباب تأخير هذه الخطوة الأممية الهامة. كما تأتي أهميته من تأكيد بنسودا على الانتهاء من مرحلة الدراسة الأولية للحالة في فلسطين، وقد لعب هذا الأمر دورا مهما في لجم نتنياهو وحكومته وتجميد البحث بالعديد من المخططات التوسعية الموضوعة على أجندة التنفيذ، كما ورد سابقا. والمهم هنا ألا يتم التأخير في فتح التحقيق بعد البت في اختصاص المحكمة الإقليمي.
والأهم في الملفات التي تعنى بالتحقيق بها «الجنائية الدولية» أنها مفتوحة:
* فملفات الاستيطان وهدم البيوت وحملات التهويد التي بدأت مع الاحتلال في العام 1967، ماتزال وقائعها تتجدد وتتسع في كل يوم. وقد أورد تقرير أممي رسمي أن عدد الوحدات الاستيطانية التي أنشئت في العام 2019 فقط تجاوز العشرة آلاف وحدة. وربطا بقرار مجلس الأمن 2334 (نهاية 2016) الذي أدان الاستيطان، فإن هذه المعطيات لوحدها تضع قادة دولة الاحتلال أمام المساءلة القانونية.
* وملف الاعتقال الذي يعتبر من أبرز الاعتداءات المتواصلة على أبناء الشعب الفلسطيني، أطفالا ونساء وفتية ورجالا، ما يزال ماثلا عبر آلاف الأسرى والمعتقلين القابعين حتى اليوم في سجون الاحتلال، إلى جانب مئات الآلاف غيرهم ممن ذاقوا معاناة الاعتقال، وخرج الكثيرون منهم بأمراض مزمنة وعاهات مستديمة جراء التعذيب والاهمال الطبي.
* إلى جانب ما سبق، ماتزال آثار وتداعيات الحروب العدوانية التي شنت على الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة ماثلة، وارتكبت قوات الاحتلال خلالها مجازر أودت بحياة الآلاف من الفلسطينيين المدنيين العزل. ومنذ انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار السلمية في غزة قتلت قوات الاحتلال مئات الفلسطينيين وأصابت الآلاف في استهداف مباشر بهدف القتل العمد.
وكل ذلك مؤسس على الجريمة الأصلية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية قبيل وقوع النكبة الفلسطينية وخلالها والتي أدت بالنتيجة إلى طرد وتشريد معظم أبناء الشعب الفلسطيني ونهب أراضيهم وديارهم وممتلكاتهم.
وجميع الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني نفذت ضمن حرب عدوانية منهجية عبر تخطيط دقيق واستخدم في تنفيذها جميع أسلحة القتل الجماعي من طائرات حربية ودبابات ومدفعية وصواريخ ضد شعب أعزل لا يملك سوى إرادته في تجسيد حقوقه الوطنية في العودة والخلاص من الاحتلال وبناء دولته السيدة المستقلة بعاصمتها القدس ربطا بعشرات، بل مئات القرارات الأممية التي شرَّعت هذه الحقوق وأكدت على وجوب تحقيقها.
وفي هذا السياق، وأمام صدور إعلان «الجنائية الدولية»، من الطبيعي، والمفترض، أن تتسع مساحة الاشتباك الميداني والسياسي مع الاحتلال تجاه كل قضية من قضايا الصراع معه، في الاستيطان وهدم المنازل والقتل والاعتقال وغيرها. وهذا يشكل جدول أعمال يومي أمام المقاومة الشعبية الفلسطينية في جميع أنحاء الضفة بما فيها القدس، وراية من رايات المقاومة الشعبية في غزة عبر مسيرات العودة وكسر الحصار وغيرها من أشكال الفعل النضالي الجماهيري في مواجهة الاحتلال وإجراءاته التعسفية.
وعلى الصعيد السياسي والديبلوماسي تنهض أمامنا مهمة مواجهة سيناريوهات الضغط الأميركية ـ الإسرائيلية من أجل تعطيل المضمون التنفيذي لإعلان بنسودا، وهذا يتطلب الانفتاح على مكونات المجتمع الدولي ووضعها أمام ضرورة التزام القانون الدولي والوقوق في وجه هذه الضغوط، والدفاع عن قرارات الشرعية الدولية كما حدث خلال الأعوام الماضية وفي هذا العام عندما تحدت أطراف المجتمع الدولي الغطرسة الأميركية وصوتت إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني بأغلبية عظمى في إطار اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة اجتماعاتها الأخيرة وكما حصل عندما تحدى أعضاء مجلس الأمن الضغط الأميركي وصوتوا إلى جانب قرارات الأمم المتحدة بخصوص قضية اللاجئين الفلسطينيين ووكالة «الأونروا».
لقد أثبتت تجارب عديدة أن الالتفاف الدولي حول حقوق شعبنا يزداد باضطراد مع تصاعد التأكيد السياسي والشعبي الفلسطيني على أهمية مقارعة الاحتلال في الميدان وفي المحافل الدولية بعكس ما يحصل، عندما نغلق خياراتنا على حل سياسي تفاوضي مسقوف بوحدة الموقفين الأميركي والإسرائيلي.
محمد السهلي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت