***
ما زالت حركة فتح قادرة على أن تنتصر على أزمتها الذاتية لتصبح قوّة طليعية مرّة أخرى ، وقادرة على تشكيل النظام السياسي الفلسطيني ، من جديد ، على أُسس تعترف بالمكوّنات الاجتماعية والسياسية للمجتمع الفلسطيني ، وهي لا تحتاج كغيرها الى مراجعة ذاتية أيديولوجية ، باعتبار فتح حركة تمتلك طاقة براغماتية عالية نافذة ، بحيث تستطيع أن تُسوِّق مواقفها ، ذات المحتوى الوطني ، بسهولة ، أعلى نسبياً من غيرها ، من الفصائل والقوى الأخرى . وربما كلّ ما تحتاجه فتح هو الانفكاك من الحمولات الزائدة ، والارتباطات المُعيقة ، والعودة إلى روح التضحية ، ليس بالنَّفس فقط ، وإنما بالامتيازات والمصالح والشوائب التي علقت بها.
وقد لا يكون هذا مُتاحاً ، ضمن التكوين الحالي ، وربما تحتاج فتح إلى ثورة داخلية (ثورة على الثورة أو ثورة في الثورة) وليس إلى مراجعة ذاتية فحسب .. ثورة تدفع بدماء جديدة ، أكثر نقاءً واستعداداً للمواجهة والتضحية والتفكير ، والخروج الحرّ والجَسور من النصوص والأجندات المُعّدة سلفاً ، والتي وجدت فتح ذاتها متورّطة بها أو مُنساقة إليها ، تحت ضغط اللحظات السياسية الملتبسة والتي تعوّد البعض على تسميتها بالممّرات الإجبارية .
الأزمة :
ثمة مشروع إقليمي كبير وقوي، ما فتئ يدبّ بحمولته الدّاهمة، ويستبيح كل شيء، ويسعى، ضمن ما يسعى إليه ، إلى تفريغ حركة فتح من محتواها الوطني والحضاري والإنساني، لتصبح أداةً طيّعة ، تساهم في ترتيب المشهد القادم، الذي سنكون على هامشه، ولا حضور لنا فيه . علاوة على أنّ كل الضغوطات التاريخية، والممّرات الإكراهية التي وجدت فتح نفسها مضطرة للدخول فيها، وكذلك هوامش الخطأ والسلبية التي تنامت على ضفاف الحركة .. كلّها عملت على محاصرة فتح وصدّها والعمل على تخلّيها عن أهدافها، ووصولها إلى حالة من الذبول والوَهَن، وجعلها استطالةً لن يتعاطى معها أحد، ما لم تثبت انسجامها معه ومع تطلعاته المُعاكسة لتطلعاتنا .. وإلاّ فإنها ستتلقّى المزيد من التهميش والتفتيت والضربات والتغريب ، ما يجعل كل كوادر فتح على بيّنة مفادها أن ما يواجه الحركة من أسئلة .. هو الأكثر خطورة، وأمام امتحان ستكون فتح من بعده ؛ إمّا حاضرة بروحها الأولى، أو مُلقاة على رصيف الفراغ والعجز والتلاشي .
إن حركة فتح صاحبة الريادة والإرْث والصنائع البيضاء، لا تستحق مثل هذا المصير التراجيدي المُحدْق، وتتطلب منّا، في هذه اللحظة، وعلى عكس الذين قفزوا من السفينة، بحثاً عن المصلحة والذات، أن نقول ما نعتقد أنه يصبّ في مصلحة إحياء وإنهاض وترميم حركة فتح، لتتولى مهماتها التاريخية، وتجيب على الأسئلة الكبيرة والتحديات.
إن الفتحاويين مدعوّون للمحافظة على مناعة فتح الوطنية ، وعدم السماح باستلاب قرارها النابع من رؤيتها وعقلها ومصالح شعبها، لإعادة صقل وحماية المفاهيم الأساسية، التي ميّزت حركة فتح، وجعلتها رائدة جاذبة ونافذة وعظيمة، ونعني بذلك مفاهيم التعددية والحريّة والاستقلالية، جنباً إلى جنب العطاء غير المحدود والتضحية البليغة، في جميع مراحل ومواقع النضال الفلسطيني .
كما أنهم مدعوّون إلى البَدْء بمرحلة جديدة ، تتعلّق بتخليص كل عناصر الحركة من الارتماء الرّخيص في أحضان الشُبهات الإقليمية ومن شوائب الانتماء العشائري والجهويّ، والتركيز على وضع كل الأعضاء في مَرْجل إعادة الصياغة، ليكون لدى فتح عناصر أكثر نقاءً وأكثر امتلاءً ومعرفة وأهليّة، أي أن يتم التركيز على النوع والكَيْف، بعيداً عن التجميع الكميّ والاستقطاب المالي والجغرافي والقَبَلي.
كما أن فتح التي نهضت على منجزات وبطولات فذّة وعبقرية، وعلى دماء رموزها التاريخيين ومعاناتهم في الخنادق والمعتقلات، وأن فتح التي تمتلك سرّاً أسطورياً يستطيع أن يجمع كل غبارها المتناثر ليصبح سبيكة صلبة وقت الشدائد، وأن فتح التي تتعرّض للتفسّخ ، هي فتح التي تتلمّس طريق العودة إلى روحها الأولى الساطعة والجامعة، وستستطيع فتح أن تنجح للإجابة على الأسئلة التي تتقدّم نحوها،لأن بوصلتها متّجهة نحو القدس، إلى أن ترفع العلَم على سارية الأسوار والقباب، ولأنها ستشيع فضاء التعبير الحرّ والعدل والميزان في مناقشاتها. وأعتقد أن فتح هي الأكثر أهليّة وجدارة، عبر كوادرها المناضلين التطهّريين، الذين ورثوا الآباء ولم ينزلوا عن الجبل، لأن يقولوا للجميع دون استثناء، إن فتح ما زالت ممسكة بالثوابت وحارسة للأحلام، مثلما هي غير قابلة للتجريف والتكيّف لتكون على مقاس هذه القوة أو تلك الدولة أو الإقليم .
وتعي فتح أن المأسَسة هي أساس المُعافاة والحصانة لأي جسم تتمّ إدارته ، ثُمّ إن القبول بالتخلّي عن أيّ حقٍ ، مهما كانت الذرائع والمُرافعات والمبررات ، سيفتح الباب لتنازلات قادمة على الطريق.
إن فتح التي جاءت منسجمة مع فِطْرة الفلسطيني ، جعلت كلَّ الشعب الفلسطيني فتحاوياً، وتركت له مطلق الحرية ألّا يكون فتحاوياً ، متى يشاء ! إن هذه العبقرية هي سلاح ذو حدّين أيضاً ، ويتطلّب اقتراحاً فكرياً لم تنجزه فتح نظرياً ، وفقاً للفكرة العملية التي هي بالأساس فكرة نظرية قابلة للتطبيق ، لأن السلوك العملي الخالي من المكوّن النظري ليس أكثر من ارتجال. وعليه فإن فتح التي تدرك أخطاءها بوضوح ، دون تجميل أو إنكار، ستضع البلسم المطلوب لكي لا تنجرح أو تتلوّث ثانيةً بالمدفوعين تخريباً إلى صفوفها ، أو بالتراجع أو العجز .
وإذا اعتقد البعض أن فتح قد لعبت دوراً في غاية الأهمية، في تشكيل مجتمعها، من أجل فكرة التعايش وقبول الآخر، وقبول تقسيم الوطن التاريخي، على ما فيه من ألم وتنازل غير مضمون، بسبب سقوط التاريخ على كاهل فتح، فإن المجتمع الإسرائيلي، في المقابل، ومنذ أوسلو، حتى الآن، وبالذات اليمين الإسرائيلي المتطرّف والمتوحّش والدموي والتلمودي، قد ذهب بعيداً في التنكّر للحقّ الفلسطيني والوجود الفلسطيني، بل أكثر من ذلك، فإن التيار الصهيوني العريض وهوامشه اليمينية، قد أذاب الهوامش اليسارية منه، بحيث تحوّلت النُخب الإسرائيلية الحاكمة والمثقفة إلى داعية للاستيطان والطرد والقتل والحرق والابتلاع وإعادة الاحتلال. وفي هذا كشف حقيقي لرؤية كل طرف على المستوى الاجتماعي والثقافي لاتفاق أوسلو. ويمكن القول أكثر من ذلك؛ إن أوسلو غيّر المجتمع الفلسطيني إلى القبوليّة، في حين حوّل المجتمع الإسرائيلي إلى كامل الرفض! وهذا يدفعنا للقول، إن المجتمع الإسرائيلي لا يمكن له أن يصنع سلاماً مع الآخرين، فضلاً عن نفسه.. ولهذا يدفع الإحتلال بعناصره المأجورة لأن يُجْهزوا على فتح ويقدّمونها لقمة سائغة للهضم والابتلاع .
وقد وَقَع العالم الغربي في خطيئة أخرى من خطاياه ؛ وهي أنه ساعد ودعم وحاول نشر فكرة القبول للإسرائيلي داخل المجتمع الفلسطيني، عن طريق مراكز البحث والدعم المالي والدورات وخلق النُخب وتشجيع المبادرات وربط المساعدات بهذه الثقافة الجديدة، في حين أن هذا المجتمع الغربي لم يطلب من الإسرائيليين الشيء ذاته، الأمر الذي تحوّل فيه الإسرائيليون إلى متطرفين أكثر فأكثر .. بحيث شهدنا، منذ أوسلو حتى اللحظة، تفريخاً متصاعداً لأحزاب اليمين المتطرّف والمتوحش والحاخامي.
إن فتح تحتاج، في داخلها، إلى ما يُسمّى بالكتلة التاريخية، بالمفهوم الغرامشي، أو لإسمنت يربط كل أطراف الحركة ، وتكون هذه الكتلة الخليّةَ الصحيّة القادرة على جذب الخلايا الحيّة، والتي تستطيع أن تحتلّ المساحات البور واليباب في جسد الحركة المُرْهَق .. برؤية متكاملة أوّليّة تتغذّى على تصوّرات واقتراحات ورؤى تحقق الإجابات المطلوبة لكل سؤال ، على أن تكون هذه الكتلة فلسطينية بامتياز ، وأن تكون ثقافة هذه الكتلة ثقافةَ المقاومة الواعية لقوانين الصراع وقوانين التحرر الوطني ، التي تتسع لكل معاني المقاومة، غير المختَزَلة في شكل واحد، يتناقض مع جدلية المقاومة والنضال .
وتدرك فتح أنها أمام حقائق صادمة ؛ أوّلها أن حلّ الدولتين قد ذهب مع الاستيطان والضمّ العنصريّ ، وأن حلّ الدولة الواحدة سيقود الى نظام أبرتهايد مخيف ، نرى إرهاصات حرائقه في كل أرضنا المحتلة ، وأننا ذاهبون إلى حصار ، سيفرضه المستوطنون وينكّلون بنا وبأشجارنا وبيوتنا ودروبنا.. فما هو السيناريو الذي وضعته فتح لمواجهة هذا الرّعب القادم ؟ والحقيقة الثانية أن الفصائل الفلسطينية قد انفرط بعضها أو انكمش أو فَقَدَ تأثيره المعهود، أو يسعى إلى خيارات تعميق الإنشقاق والإنقسام والبحث عن اتفاقيات ، إنْ تمّت ، ستقضي على مشروعنا الوطني ، فماذا أعدّت فتح لإنهاض الفصائل والحيلولة دون التشظّي وتخريب الوحدة الوطنية، عبر انتخابات واجبة لكلّ الهيئات . والحقيقة الثالثة أن القوى الكبرى لن تهبّ لتقديم "الدولة" لنا على طبق نظيف ، لأسباب معلومة، وأن عمقنا العربي يشهد درساً في الخراب والطحْن والعدمية ، وأنه منشغل بنزيفه المهول . عدا عن حقائق "داخلية" تشير إلى أزمات اقتصادية واجتماعية ووطنية شديدة الصعوبة والتعقيد ، مثل البطالة والهشاشة .. فأين فتح من كل هذا ؟ وهل تمتلك إجابات شاملة وعلمية وواقعية ؟
ويمكن تلخيص أهم الأسئلة التي تتقدّم نحو فتح ، أو ما يشكّل تحدياً لها ، من قضايا عسيرة ، يتمثّل فيما يلي :
1 إن ما كان يصلح من لغة وخطاب قبل بضعٍ وخمسين سنة لم يعد يصلح اليوم ، لأن المسائل التي تصدّت لها ، وصُمّمت من أجلها فتح لم تعد هي نفسها اليوم.
2 لقد تعرّضت فتح لعملية إفساد مُمنهجة بدأت منذ عقود من قبل قوى إقليمية ودولية وعربية ، إضافة الى عملية تجريف وتفريغ لمحتواها الوطني والثوري والثقافي والتطهّري ، ما جعل هوامش السوء والنتوء تحتل مساحات كبيرة داخل فتح.
3 إن الهدف الذي وضعته فتح لنفسها عند انطلاقتها كان يتركّز حول تحرير الوطن، لكنها اليوم تجد نفسها قد انغمست في إقامة السلطة الوطنية ومشكلاتها وقضاياها ، إضافة إلى الانخراط الإجباري في حِراك العمل الإقليمي، ما جعل سؤال التحرّر وبرنامجه يتأخّر ويتخفّى .
4 لقد هرمت حركة فتح ، التي لم تفسح المجال للأجيال الشابة لأنْ تنسرب في شرايينها (أصغر عضو في اللجنة المركزية دخل إلى عقده السادس)، ما جعلها حركة قديمة من حيث القيادة والأدوات والتفكير .
5 إن الهيكل الذي قامت عليه فتح لم يعد يصلح اليوم من حيث الاستطالات والأذرع التنظيمية والمواقع ، ما جعلها في مواجهة أزمة بنيويّة عميقة مركّبة وشائكة.
6 لم تستطع حركة فتح أن تجدّد خطابها واجب الوجود، الذي ينبغي أن يجيب على تساؤلات اللحظة، بقدر ما نجد خطابات متعددة ومتناثرة ومشتتة للحركة ، ما ينفي وجود نصّ متماسك حداثي جامع وقادر على المجادلة والنفاذ والتأثير.عداك عن أن شكل التواصل اختلف كثيراً وبات يؤثّر عميقاً في مضمون الخِطاب .
7 إن حركة فتح اليوم تعيش تحت الشرط الاحتلالي ، الذي يسعى للعبث في أحشائها والتأثير في مكوّناتها والعمل على قتل الخلايا الحيّة فيها.
وإن المناخ الذي خلقته أوسلو عمل على تهشيم الفصائل ونظام الحركة الأساسي، وأسست لفكر جديد ، وعقيدة تصالحية هجينة ، تجاوز البرامج والمبادئ . ولم نجد المسافة بين السلطة وبين " الثورة "، وآمنت بالسلام استراتيجياً، ولم تضع بديلاً إذا انهار السلام - وقد انهار - ، وأشاعت ثقافة التسويات.
وعلى فتح أن تستعيد بقوة أكبر شرعيتيّها اللتين تمدّانها بالحيوية والحضور والنفاذ ، وهما الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية ، رغم ارتباك شرعيتها الإقليمية بسبب اصطفاف قوى ودول إقليمية مع النقيض ، إضافة إلى وجود عقبات كأداء أمام ما يُسمّى بشرعية المستقبل ( حقّ الأجيال القادمة في الحقوق) وشرعية العمل الوطني الجماعي (أن تعمل بمنطق الكلّ الوطني).
إن الشرعيتين الثورية والانتخابية أو إحداهما، لا يمكن الحصول عليهما أو إنجازهما إلاّ عبر الجماهير وبها.
كل ذلك على خلفية عدم الإنجاز السياسي بسبب التعنّت الاسرائيلي والانحياز الأمريكي الظالم ، والإخفاق التنموي لسيطرة إسرائيل وإجراءاتها التخريبية ، والتخشّب الفكري أو غياب الرؤية الثقافية بمعناها الإجتماعي ، ومواصلة "الانقسام" المرير . ولهذا فإن كل ما نشهده من تراجع للصورة الفلسطينية والنموذج الفلسطيني، ورغبة البعض في أن يغسل يديه من قضيتنا، هو نتيجة لما وصلت إليه رائدة الكفاح والمقاومة فتح، التي استمدت شرعيتها وتأثيرها الغلّاب من مشروعها الكفاحي.
وحركة فتح قد وَقَعت في إشكالية ، "منُجَز السُلطة" و " مُنجَز المقاومة " إذا ما اعتبرنا أن "السلطة" خيار دولي أكثر منه إنجازاً وطنياً أصيلاً !
كما أن فتح ليس لديها إعلام قادر وقوى ومهني ، وليس لديها مؤسسات ثقافية ومُنْتَج يعبّر استراتيجياً عنها ويسوّق مقولاتها ، وتشكّل أدبياتها وجدان عناصرها الطالعين، وليس لديها مشاريع اقتصادية تسدّ الحاجة ، عدا عن أن عناصرها الموزّعين على المؤسسات والاتحادات منسيّون بلا منهجية ، ولا تربطهم بفتح علاقة ساخنة تذكّرهم بأنهم فتحاويون ، ما خلق غُربة بين الكادر الفتحاوي وحركته، وهذا أدى إلى تراخي العلاقة وفتورها، وسهولة الإفلات أو التقيّد بقراراتها ! وهذا أغرى البعض للتطاول والنقد الشخصي البشع والتسرّب منها، والذهاب نحو الكآبة والانطواء. مع تأكيدنا على ضرورة حفظ الحق المقدّس للنقد البنّاء، دون قيد أو شرط على الحرية، سوى المزيد منها.
وإن حالة البؤس التي تعيشها حالتنا الوطنية والفصائل، ناتجة عن بؤس في حركة فتح ، لا بدّ من تجاوزه بعد إدراكه وتفكيكه . وبالتأكيد فإننا نعي كل أشكال وآليات استراتيجيات الاحتلال القوية والمتواصلة، ودروها في تخريب ومحاصرة وتهديم الذات الحركية والفلسطينية، ولكن أقول : آن الأوان للردّ على غوائل الاحتلال، وخلق الفعل المتناغم والمناسب، والقادر على إبقاء حركتنا حاضرة ومتماسكة، لتمتلك عوامل الصدّ والثبات والإنهاض، وإشاعة الخَلْق والوحدة والطهارة والإيثار .
ونرى أن على الحركة أن تُعيد تعريف "فتح" كحركة نضالية، تستمد شرعيتها من طرحها النضالي المتعلّق بتحرير الأرض لزاماً، دون الوقوع في مفاوضات عبثية ولا طائل منها، وتشكّل ذريعة لتجميل الاحتلال وبقائه، ما دامت هذه المفاوضات دون مرجعية ودون سقف زمني ودون ضمانات دولية أو إقليمية .
وأن على فتح أن تُحدد موقعها ومسؤوليتها بالنسبة لكل من السُلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهل هي حركة تحرر وطني أم حزب لبناء السلطة أم التزاوج بين الأمرين؟ إن هذا التحديد سيفيد الحوار الوطني الداخلي، ويجعل منه سهلاً وقابلاً للتحقّق، ويحرج الطرف الذي يرفض التوافق الوطني ويكشفه. وعليها أن تؤكد على أن الوحدة الوطنية تتقدم على كل أمر ، وأن الإنقسام ليس قَدَراً ، وأن فتح هي التي تقدّم التضحية الكبرى في سبيل توحيد الفصائل ووحدة الوطن ، وأن ذلك يكون بأن تتقدّم فتح برؤية متكاملة تنهض معها بمنظمة تحرير جديدة تشمل بعباءتها كل القوى على قاعدة وطنية سياسية جامعة وبمؤسسات ناشطة وحيوية وشابة ورائية .
وعليها أن تقضي على ظواهر القوى والتيارات والوجاهات والأمراء والأجندات وتأثير الأموال، وأن تقوم بحلّ أزمة الأجيال والجهويات، والإنتماء إلى الدوائر الصغيرة، عبر المكاشفة والمحاسبة، بعيداً عن التخوين والإعدام، وإقرار قانون المحاسبة بجانب قانون المحبّة والأخوّة النضالية .
وعليها أن تشير، بما لا لبس فيه، إلى خواء التعبئة الفكرية منذ عقدين وأكثر، والمتميزة باضطرابها وتفكّكها، والعمل على نشر رؤية فكرية تعبوية، تقرأ الواقع كما هو، جيداً، وتفسّره، وتقدم الحلول المطلوبة على غير صعيد، بمعنى أن على فتح وكوادرها ونُخبها، تقديم برامج مكتملة ووطنية للنواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتعليمية .. الخ ، وتكون هذه البرامج لها صفة التكامل، وربما تكون القاعدة التي ينبغي أن تقوم عليها برامج السلطة .
إن إصلاح واستعادة فتح لروحها وفاعليتها سيرفع من مستوى أداء الفصائل التي تحلّلت وأنكمشت، وسيواجه أي خطاب ينأي بنفسه عن الوحدة الوطنية ومصالح فلسطين الكبرى، ويسمح لنفسه بالارتباط بأجندات إقليمية ..
وعلى فتح أن تستحدث دوائر وهيئات ثقافية وإعلامية وتربوية قادرة على وصل القاعدة بالقمة، وإحداث حراك ذهبي بين كل الكوادر والعناصر، على اختلاف مواقعهم ومهامهم، لجعلهم يقفون على خطّ واحد . لأن الاهتمام الكامل والشامل بالعنصر أولاً، هو ذخر هذه الحركة الذي فقدته إلى حدّ كبير ، وإن ذلك سيؤدي إلى تساوي الفُرص داخل الحركة، التي تحتاج إلى دافعية وتنافس شريف ودماء خضراء جديدة .
إنّ كوادر حركة فتح، التي حملوها وحملتهم، لا يمكن لهم إلا أن يؤكدوا على هويتنا الوطنية الفتحاوية ، بإنجاح أي مسعى ينبغي أن يكون ردّاً عمليّاً وحاسماً على كلّ مَن تُسَوِّل له نفسه العبث بفتح ، التي لم يتبقَ للشعب الفلسطيني إطاراً غيرها ، بعد انكماش قوى اليسار ، وبعد أن ثبت أن حماس تذهب في انتمائها إلى خارج فلسطين ، لارتباطها العضوي بحركة الإخوان المسلمين العالمية .. لهذا يريد الاحتلال ومَن يتماهى معه أن يفتّوا في عضد فتح بالسيطرة عليها ، والذهاب بها حيث تريد إسرائيل ، أو بالقضاء عليها وإنْهاكها وتخريبها .
وأن "الواقعية" التي بآسمها يريد البعض الذهاب بنا إلى مهاوي التخلّي عن المبادىء والأصول والثوابت ، ما هي إلاّ قراءة عاجزة ، واستسلام للأمر الواقع، وفرض ما هو قائم كأنه قضاء مبرم، لا فكاك من رفع الراية البيضاء أمام جبروته وأثقاله .
لكن فتح الغلاّبة لم ترفع يوماً الراية البيضاء، ولم تعلّم بنيها أن يفعلوا ذلك المُنكر.. ولا يليق بفتح إلاّ أن ترفع راية الوحدة والمثابرة والانعتاق ، أو ترفع الكرت الأحمر لمن ينبغي له أن يخرج من ملعبها الوطني .
المتوكل طه
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت