أقرّ مجلسُ الوزراء الإسرائيلي المصغر (الكبينيت) مع نهاية العام 2019م اقتطاعاً جديداً من إيرادات المقاصّة، بقيمة 149 مليون شيكل؛ لتضاف إلى حوالي 502 مليون شيكل، تمَّ إقرارُ اقتطاعها في شهر شباط/ فبراير من ذات العام؛ ليصبحَ حجمُ الاقتطاعات والقرصنة حوالي (650) مليون شيكل، وذلك بموجب قانون عنصريّ أقرّته (الكنيست) بتاريخ 8/7/2018م، بالقراءات الثلاث، وبأغلبية 87 عضوَ (كنيست) من أصل 120؛ لحجز أموال من إيرادات المقاصة تكافئ مخصصات الأسرى الفلسطينيين وعوائلهم. ويأتي إقرار (الكبينيت) لهذا الاقتطاع الجديد في ظلّ حُمّى الانتخابات الإسرائيلية، والمزاد المفتوح على حقوق الشعب الفلسطينيّ من الحكومة الإسرائيليّة اليمينيّة المتطرفة، وعلى رأسها الفاسد "بنيامين نتنياهو" والذي يحاول الهروبَ إلى الأمام من قضايا الفساد التي تلاحقه على حساب الشعب الفلسطينيّ، ويغلو في تطرفه لإرضاء اليمين الإسرائيليّ من خلال تعهده بضمّ الأغوار ومناطق من الضفة الغربيّة في انتهاك صريح للقانون الدوليّ والمواثيق الدوليّة، وفي إعلان صريح لتشييع حلّ الدولتين، ويأتي اقتطاع الأموال الفلسطينيّة ضمن هذا السياق، من أجل إضعاف السلطة الفلسطينيّة، وإبقائها في حالة إنهاك وموت سريريّ، فبعد أزمة أموال المقاصّة مطلع العام الماضي، وقبل أن تلتقط السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة أنفاسها، تعرضت لضربة جديدة من خلال اقتطاع جديد من أموال المقاصّة، واستمرار هذه الاستقطاعات في العام الحالي 2020م.
ومن خلال مراجعة الأرقام والبيانات، فإن نسبة هذه الاستقطاعات (650 مليون شيكل) لا تشكّل سوى (7%) من إيرادات المقاصّة السنويّة، ولكن الخطورة تكمن بالنهج الإسرائيلي في السطو على الأموال الفلسطينية تحت مسميات مختلفة، وتشريعها بالقانون الإسرائيليّ؛ ما يشكل تهديداً استراتيجياً للسلطة الفلسطينيّة، ويحرمها من مواردها الماليّة، ويعرقل خطط التنمية، وبرفع من مستوى المخاطر المنتظمة وغير المنتظمة التي تواجه الاقتصاد الفلسطينيّ، وبالتالي الحدّ من فرص الاستثمار والنمو الاقتصاديّ، وبموازاة كل ذلك تطلق إسرائيل حملة تحريض واسعة في العالم ضد الشعب الفلسطينيّ، بما يشمل تشويهاً للحقائق وقلبها، من أجل وقف الدعم العالمي للشعب الفلسطينيّ بشقيه: الماديّ والمعنويّ، مستغلة شبكات علاقات دولية وماكينات إعلامية ومراكز بحثية متخصصة، الأمر الذي ساهم في تقنين الدعم المالي للسلطة الفلسطينيّة والشعب الفلسطينيّ، وبالتالي تفاقم الحصار الماليّ، وتعميق الأزمة الماليّة التي تعاني منها السلطة الفلسطينيّة.
وكذلك تعمل إسرائيل ومنذ العام 2003 م على استقطاع الأموال الفلسطينيّة من إيرادات المقاصّة تحت ما يسمى "بصافي الإقراض" وذلك بدل الخدمات التي تقدمها في مناطق السلطة الفلسطينيّة في الضفة وغزة، ومن ضمنها الكهرباء والمياه وغيرها من البنود والتي لا تملك السلطة الفلسطينية تفصيلاتها، ويبلغ متوسط "صافي الإقراض" مليار شيكل سنوياً، وارتفع هذا المبلغ في العام 2019، ليصل الى أكثر من 100 مليون شيكل شهرياً، أي ما يزيد على (1.2) مليار شيكل خلال العام.
والسؤال المهم الذي يطفو على السطح في هذه المرحلة، هل يعيد القرار الجديد باستقطاع الأموال الأَزَمَةَ المَالِيّة للسُّلْطَة الفِلِسْطِينِيّة إلى المربع الأول؟ وهل سنشهد عدم انتظام رواتب الموظفين العموميين؟ الإجابة، ليس من المتوقع دخول السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في أزمة ماليّة عميقة تحد من إمكانات دفع الرواتب والنفقات التشغيلية للقطاع العام، حيث إن سبب ذلك في العام الماضي كان رفض السلطة الفلسطينيّة تسلم أموال المقاصّة منقوصة، مما أدى إلى عجز كبير في إيراداتها وفقدانها حوالي ثلثي تلك الإيرادات، ولكن الخطير في الأمر أن قرصنة إسرائيل للأموال الفلسطينية تتم بناءً على "قانون" بخلاف الحالات التي كانت تُحْتَجَز فيها الأموال الفلسطينيّة؛ لأسباب سياسية أو لضغوط محددة، أو غايات انتخابيّة للأحزاب الاسرائيليّة، ثم يفرج عنها بقرارات سياسيّة، كما أن عدم وجود رادع لإسرائيل، بل على العكس، وجود مزايدات داخلية إسرائيلية على الحقوق الفلسطينية نتيجة تطرفها نحو اليمين، يفتح باباً واسعاً لقرصنة إسرائيليّة مستمرة للأموال الفلسطينيّة تحت ذرائع مختلفة لا تنتهي، وإضفاء صبغة قانونيّة على تلك القرصنة، مما يشكل تهديداً دائما للسلطة الفلسطينيّة والاستدامة الماليّة، ويعرقل خطط التنمية المختلفة.
وفي ضوء ما تقدم، فإنّ القرار الإسرائيلي باستقطاع أموال فلسطينية لن يكون الأخير، وسيفتح شهية المتطرفين في سدّة الحكم في إسرائيل نحو المزيد؛ لذا توجد ضرورة أن لا يكون الردّ الفلسطينيّ فقط تحت باب الشعارات أو ردود الفعل السريعة غير المحسوبة جيدا، مثل رفض تسلم أموال المقاصّة، دون توافر بديل وشبكة أمان، ودون الاتكاء على ركن شديد؛ لتعزيز صمود الشعب الفلسطينيّ، ويجب أن يكون الردّ على المستوى الاستراتيجي لإحداث تغيير ثوري في المنظومة الاقتصاديّة القائمة ما بين السلطة الوطنيّة وإسرائيل، تمهد لانفكاك اقتصادي حقيقي، وبشكل مُمَنْهَج، وليس موسمياً أو ردة فعل، ويجب العمل على الانفكاك الاقتصادي بنهج تشاركي بين مكونات الكل الفلسطيني، وذلك بالموازاة مع إثارة القضية عالمياً، وتحريك دعوى قضائيّة دوليّة ضد إسرائيل، وتطوير الخطاب الفلسطينيّ بكافة مستوياته المحلية والدولية؛ ليكون في مستوى الحدث وللتصدي للدعاية الإسرائيلية المُمَنهجة، فالاستقلال الوطنيّ لن يتم دون استقلال اقتصاديّ، والوضع القائم لن يسمح للسلطة الفلسطينيّة بإحداث تنمية حقيقيّة، وبالتالي سيظهر السلطة الفلسطينية بالعاجز على إدارة دولة.
ومن جديد إن التكلفة الأكبر هي بقاء الوضع القائم على ما هو عليه، فالاستقطاع المالي الجديد لن يكون الأخير، وسَتبقى أموال المقاصّة سيفاً مُسلطاً على رِقاب الشعب الفلسطيني.
بقلم: مؤيد عفانة
باحث وخبير في قضايا الموازنة العامة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت