المكان: مدينة غزة، الزمان: الأربعاء الأول من يناير من العام 2020، الحدث: إحياء الذكرى الخامسة والخمسين لإنطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح "، الوصف: حشود هائلة ومذهلة من الجماهير من كافة أبناء الشعب الفلسطيني على امتداد قطاع غزة، أطفال ونساء ورجال وشيوخ وشباب الكل تواجد، من الصباح الباكر كان المشهد على امتداد الطرقات من رفح حتى بيت حانون، رايات حركة فتح أصبحت هي المعلم الأساس، الكل يتوجه إلى مكان الإحتفالية في شارع الوحدة في غزة، ليتمدد هذا الشارع محاولاً أن يتسع لجماهير الفتح، لتصبح غزة كلها هي شارع الوحدة.
عندما نقول حركة فتح يتبادر سراعاً ومثل وميض البرق معالم بارزة من تاريخنا النضالي الفلسطيني، تاريخ اكتسى بصور كان لحركة فتح المشهد الأساس فيها. فمن منا لم يتفتح وعيه على أسماء شهداء وعمليات حركة فتح؟، ومن منا لم ترتبط بذاكرته وتثير فيها الحماسة أغاني حركة فتح؟ إذن هي حقيقة أن حركة فتح شكلت الوجدان الوطني الفلسطيني، واحتلت المساحة الأعظم من هذا الوجدان، وبالتالي ما حدث في إحياء ذكرى انطلاقة فتح في غزة ليأتي في إطار التفاعل الطوعي والعفوي مع هذه الوجدان، الأمر الذي يعكس مدى الحضور الراسخ لحركة فتح بصفتها مكون أساس ومركزي للشخصية الوطنية الفلسطينية.
" يا سادتي الأنبياء ... لا تسألوا الأشجار عن أسمها ... لا تسألوا الوديان عن أمها ... من جبهتي ينشق سيف الضياء ... ومن يدي ينبع ماء النهر " هكذا قال شاعرنا المبدع محمود درويش في قصيدته الرائعة جواز السفر، والآن تقولها غزة لكل أنبياء العصر الجدد، لا تتعبوا أنفسكم بالبحث والتحليل حول ماهية شعبنا الفلسطيني وحول تلك العلاقة الوجدانية الراسخة ما بين الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وحركة فتح، وحالة التماهي والإمتزاج التي تؤطر تلك العلاقة، لقد أجابت غزة عن تلك الأسئلة، أجابت عندما خرجت إلى الشوارع لتجدد عهدها وامتزاجها مع حركة فتح، فحركة فتح استطاعت عبر ما يزيد عن خمسة عقود أن تشكل مرتكزاً أساساً في بناء الوجدان الوطني الفلسطيني، وبطبيعة الحال فإن غزة كانت ومازالت وستظل شاهداً ومشهوداً على أن حركة فتح هي العنوان للشخصية الوطنية الفلسطينية، وهي صانعة وحامية المشروع الوطني.
لقد امتشقت غزة سيف الضياء لتشق ستار الأسئلة المبهمة التي تشكك في ماهية حركة فتح، لتقول بأن حركة فتح تضرب عميقاً في جذور الوعي الفلسطيني، وهي أكبر وأعلى من كل محاولات الإنكار والتهميش، فإسم حركة فتح وتاريخها النضالي هو وجدان جمعي لشعب يواجه مؤامرة تستهدف وجوده وتاريخه وهويته، ويخوض معركة التحرر الوطني على مستوى الأرض والإنسان، وغزة جزء من الكل الفلسطيني يتخذ موقعه في هذه المعركة، جزء يدرك أنه بدون الكل لن يكون وأن ماهيته الوجودية لن تكون خارج الكل الفلسطيني، وحركة فتح هي منبع النهر للكل الفلسطيني وهي مرتكز أساس للحفاظ على ديمومة الصراع وصولاً لإنتزاع كامل الحقوق الوطنية والسياسية والتاريخية والإقتصادية للشعب الفلسطيني.
إن ما حدث في غزة من إحياء ذكرى انطلاقة حركة فتح والمشهد الملحمي الأسطوري ليحمل في طياته العديد من الدلائل المفصلية القادرة على صناعة لحظة تاريخية فارقة في إدارة الصراع من الإحتلال الصهيوني، أهم هذه الدلائل إبراز القدرة الحقيقية على إفشال المؤامرة الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، وذلك من خلال صفقات مشبوهة أولها صفقة القرن التي ترتكز إلى خلق الفصل ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة في موازاة الإعتراف بالقدس عاصمة لدولة الإحتلال، وذلك من خلال التمهيد لبسط ما يسمى بسيادة الإحتلال على الضفة الغربية، وخلق كيانية في غزة استغلالاً لواقعها وظروفها الإنسانية والمعيشية الصعبة، من خلال مشاريع تحمل في ظاهرها الجانب الإنساني، ولكن هي في حقيقتها تصفية للقضية الفلسطينية. ثاني أهم هذه الدلائل إبراز حالة الدعم والمساندة والالتفاف حول القيادة الفلسطينية في معركتها في مواجهة محاولات تصفية القضية الفلسطينية، وتأتي أهمية ذلك الأمر كون أن هذا الدعم يأتي من قطاع غزة، والذي يمثل مدخلاً لدولة الإحتلال وللإدارة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية بطريقة مرحلية من خلال التسلل المخادع تحت غطاء المشاريع الإنسانية بهدف الفصل بين الضفة وغزة وضرب المشروع الوطني الفلسطيني في مقتل.
لقد جسدت غزة في إحياء ذكرى انطلاقة حركة فتح لوحة وطنية رائعة، عكست روح الإنتماء الوطني والتمسك بالوحدة الوطنية، في رسالة مضمونها أن حجم هذه الجماهير المشاركة تستدعي من كافة مكونات النظام السياسي الفلسطيني أن تدرك أن هذه لحظة مفصلية فارقة يجب التأسيس والبناء عليها لخلق حالة من التوحد على أسس وطنية جامعة قادرة على احتواء الكل الفلسطيني، فحركة فتح بتاريخها الوطني الكبير وتصدرها المشهد الفلسطيني ستظل هي العنوان الذي يشكل رافعة وطنية وحاضنة للكل الفلسطيني، وستظل حركة فتح صانعة المشروع الوطني وحارسة الحلم الفلسطيني. عاشت فتح في ذكرى انطلاقتها الـ 55 ...
بقلم د. عماد مصباح مخيمر
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت