كانوا ثلاثة رجال !

المُغَيَّبون ؛ الشقيري والنبهاني والحسيني

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه

***

 

حيوان الاسفنج البحري حيوان عجيب، فقد احتار فيه علماء البيولوجيا قديماً، إذا عتبروه نباتاً لأنه ثابت لا يتحرك، وينمو كما الأشجار، حيث إن كل قطعة منه، مهما تناهت في الصغر، تمتلك القدرة الكاملة على النمو من جديد، ومرت قرون طويلة قبل أن يكتشف العلماء أنه حيوان ذو قدرات هائلة على النمو والحياه والاستمرار.

قدرة الاسفنج هذه على الحياة في كل الأماكن، وتأسيس مجتمعات بعيدة ومختلفة، وتطوير هذه القدرة على البدء من جديد، تشبه في وجوه ما.. حالة الفلسطينين الذين مُنِعوا من التطوّر الطبيعي، مثلما مُنعوا من التناسل والحياة على أرضهم، وأُجبروا على الحياة، بعيداً.. عن منابع المياه والسهول والجبال والمغاور والأسبلة.. فحمل الفلسطيني مكانَه في قلبه، وتشرّد تحت  كل شهاب وكوكب.

هذا التشرّد، وهذا التشظّي، لم يخلق تاريخاً فلسطينياً واحداً، ولم يخلق حالة فلسطينية واحدة، بل خلق حالات وتواريخ، وحتى ذاكرة متعددة. وبعيداً عن الرومانسية المفرطة أو النظرة التسطيحية، فإن هناك مصالح متضاربة في بعض الأحيان !

ومن هذا المنطلق تبدو بعض المحاولات في العودة إلى تاريخ ما قبل 1948كأنها محاولة توحيدية وتأطيرية وتجميعية للذاكرة والتاريخ والثوابت. ومن هذه المحاولات الاحتفال بالشعراء والكُتّاب والمناضلين والمفكّرين والأمكنة الفلسطينية التي درست أو انطفأت.

ومع كل هذه الجهود الطيّبة، إلا أنني لاحظت تغييب أسماء أخرى كثيرة، غابت أو غُيّبت بسبب السياسة مرّة، او الأيديولوجيا مرّة أخرى، أو بسبب عدم الانتباه، أو عدم استحضار الذكرى.

من هؤلاء  وعلى رأسهم، السياسي والمناضل الفلسطيني أحمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي عاش حياة حافلة بأشكال النضال العسكري والسياسي، واستطاع، لأسباب عديدة، أن يدفع بإتجاة إقامة منظمة التحرير الفلسطينية وجعلها مظلّة سياسية للفلسطينين،بعد أن فَقَد الفلسطينيون أيَّ مظلّة تمثّلهم، وباتوا موزّعين لاجئين في أصقاع الدنيا، ما جعل المفكرين السياسيين يطلقون عليها مرحلة البحث عن الذات، بمعنى أن الشقيري هو الذي أصّل للشعب الفلسطيني بيتاً يمثّلهم وينطق باسمهم ويجمع شعثهم، وقد استطاع أن يوفّر للفصائل الفدائية أرضاً راسخة هي م .ت . ف. لتصبح الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، بعد أن شرعوا بإحياء وإنهاض قضيتهم ليسترجعوا اسمهم وهويتهم وأحلامهم التي لا تموت. وبالتأكيد، لن نحمّله عبء الفشل الرسمي النظامي العربي في هزيمة حزيران، فقد كان ابن الستينيات، أيام انفجار المدّ القومي،بسيّئاته وحسناته. وسيبقى الشقيري فلسطينياً، انشغل بالمُتاح وتعامل معه، وأسّس عليه، وبالتالي فهو ليس ابن رحله فاشلة، وإنما كان نتاجاً طبيعياً لمرحلة شعار عريق وكبير وطموح. ومع عرفاننا بتسمية مكانٍ ما باسمه لكن ذلك لا يكفي، بل ينبغي دراسة فكر الرجل السياسي والوطني وتسليط الضوء على كل المحاور المتّصلة به، لنعرفه جيّداً ونؤصّل مداركنا بحمولته.

المفكر الفلسطيني الثاني الذي غُيّب تماماً عن الأدبيات الفلسطينية أو الإشارات الثقافية هو الشيخ تقي الدين النبهاني، مؤسس حزب التحرير الإسلامي، وأحد أهم المفكرين الذين حاولوا، بصدق وجدّ وإصرار، الدفع بالفكر الإسلامي السنيّ إلى أقصى حالات تناقضه مع السائد والشائع، وهو كذلك أحد الذين هضموا بشكل يدعو إلى الدهشة تراث الأشعريين، ومن ثم ابن تيمية ومدرسته، ليجابه به الفكر العلماني، وما نتج عنه من أنماط تفكير وتنظيم وإدارة. المدهش في الأمر أن ذكر النبهاني غائب تماماً في الإشارة إليه أو التعريف به - حتى أننا لم نُطلق اسمه على شارع أو مدرسه أو ناد ثقافي - حتى ولو اختلفنا معه سياسياً أو فقهيّاً. ويبقى النبهاني واحداً ممَن بحثوا بعمق ودراية في أسداف تراثنا وعقيدتنا، واستطاع أن يخرج باجتراحٍ ترك بصمة لافتة، قد لا نتماهى مع بعض اجتهاداتها، لكنها تستحق النظر والدراسة والتقدير.

الفلسطيني الثالث المُغَيّب هو الحاج أمين الحسيني، الذي غُيّب إلى الدرجة التي يذكر فيها اسمه مع الشعارات الهوجاء، والعمل السياسي الفاشل، والتحالفات المغلوطة، أي هو الوحيد الذي أدرك ضرورة أن يكون للشعب الفلسطيني ممثّل وحكومة وعنوان، لهذا عمل بعد النكبة مباشرة على تأسيس حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي باشا ، التي لم يحتملها النظام العربي الرسمي آنذاك ، فبقيت غرفةً في شقّة منسيّة بمدينة القاهرة.

بمعنى أنّ الحسيني استطاع يوماً ما أن يجمع معظم أهل فلسطين ، غير مرّة ، تحت لواء (سيف الدين الحاج أمين)، واستطاع أيضاً أن يقود ثورة هذا الشعب، وأن يضع قضية فلسطين تحت كل الأنظار. وأسأل بمرارة ؛ ماذا نعرف عن تاريخ الرجل ؟ وماذا يحفظ الجيل الطالع عنه ؟

هل فشل الرجل؟! وماذا يستطيع رجل أن يفعل أمام تاريخ "مقرّر" سلفاً ؟! هل يستطيع رجل مثله أن ينسف اتفاقات الدول الكبرى آنذاك في العامين 1916و 1920؟!

كان الحج أمين رجلاً سيّء الحظ بكل المعاني، وذهب يحمل سوء حظّه وقلّة حيلته أمام تاريخ له قوة غامشة.. في ظرف رديء إلى أقصى الدرجات.

ما نقوله ؛ إن شعبنا، مثل كل شعب آخر، انتصر وفشل في نضالاته مرّة أو مرات، حاول وجرّب، أنجب رجالات، وخاض تجارب وصراعات، ولكن إرادته أكبر من حجمه، وإيمانه أكبر من واقعه، وطموحه أعلى من قامته، وهذا لا يعطي الحقّ في النسيان أو التجاهل أو التغييب، إنهم فلسطينيون.. عاشوا كذلك.. وماتوا كذلك..  أليس كذلك!

المتوكل طه

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت