فلسطين التي أرهقتها سواطر المحتلين، تنهال عليها أيادي الخاطفين، بكل حقبة يتسابق الغازين لقطف ريعان شبابها، فهي سيدة جميلة زينتها كحور عين، تسر ناظرها ومن سمع عنها لا يفتأ إلا أن يأتيها، ليقع في عشقها مرغما.
نوازل المحلتين لا تدل إلا على الحقد على ساكنيها، يأتون طامعين بحسنها وسرقة ثرواتها، وتزيف مولدها الذي عاصرته السنين الطوال، بعروبة إسلامية تشهدها كل المعالم والمقامات الدينية والتراثية.
سقطت دولة الخلافة العثمانية، في ذلك اليوم الذي اسود ظلام الليل على فلسطين، فهبت ريح جسور على تضاريسها، لتحمل أعاصير تخطف كل جميل، وتدمر معالم الأرض العربية، وتنشر الموت بالبيوت والحارات.
دخل المحتل متغطرساً في سمه الثعابين، يتلوى على الأرض سالب لحياتها، ومن وطيء الثرى فيها ساكناً معمراً، هنا يقتلون وهنا يدمرون، لا إنسانية ولا شريعة تغلق سد الجنون، تآمروا على الحسناء في خدرها، وأقروا وعداً للصهاينة بجعل رحمها، منبت للمولد المشؤوم لآل صهيون.
ومنذ السنة التي ختمت بالسابعة عشر وبدأت بالتاسعة عشر، بدأت ثورة الحق تجوب العروق، ونادى المنادى حي على الجهاد يا أهل فلسطين، أرضكم غُصبت من انتداب وألقى وعده في مهد بني صهيون، جاب الصدح حتى علا السماء.
ثار الشعب كله رافضاً لإنتداب جديد، هذه الأرض لنا، موطن الأنبياء ومن عرج إلى السماء، فالموت لأجلك يا أرض المقدس، يا طهارة الروح، وسمو العابدين في محراب أقصاك، ولتسل منا الدماء لأرض مباركة غرس زيتونها في دم الثوار، وكفى بركتها أن تبدأها سورة الإسراء.
واستمرت حقبات الجهاد بين ثورة وأخرى، حتى حلت ثورة كبرى لعام 1936، تفجرت أركانها بين أضلع المجاهدين، دفاعا عن حمى وطن، تكبده الأعداء سارقين ثرواتهم وأملاك الساكنين بيوتهم أمنين.
زف في ذلك الموسم العريس"جدي ابراهيم"، كانت مواكب المشاركين في ليلة الحناء لا تعد، وأغاني النساء من فوق سدة عالية، على وقع طبل وتحانين للعروس في حناها، بدأ العريس أيامه في خدر عروسه، وبعد صلاة فجر نادي المؤذن هبوا للجهاد، ثوروا يا شعب البنادق التي لا تنام فوق وسائد الرخاء .
انطلقت ثورة فلسين لتعم أراضيها من مشارقها لمغربها، وتصدر الصفوف شباب أيقونة الحب، ليوجهوا رصاصاتهم لعدوا يحاصر السنابل، يتخفون في الليالي لقنص رقاب المتصلقين على خرائط الطرقات، ويزرعون هنا بارود وهنا أخر، لتفجر أقدام تدوس طهارة القدس ومحاريب كل فلسطين.
مرت الايام الطوال والمعركة لم تنتهي، ولا تمل الأنامل عن الكفاح، ولا يخيفها موت تراه هنا ولا دمار، بل الخطى في ثبات وازدياد، لتعلو نحو حرية تنال، وشهادة في سبيل الله ترتجى
لم يكن الثوار وحدهم من فلسطين، فاختلط الدماء بأحرار العرب المجاهدين، تسابقوا معا لدرجات المعالي، ودحر عدو غاصب التف على البيادر والحارات، هذا الانتداب الجافي من صقاع الغرب، يلهو على بطن أرضنا، ويدعس طهارة رحم، من سيصمت على ذلك سوى الجبان .
كان جدي "ابراهيم" لم يتعدى العشرينات من عمره، في ريعان شبابه، وما زال لم ينقضي من زفة عرسه، وانتهاء سنة زواج الأولى، عندما انطلقت شرارة الثورة للجهاد، ثار كالجواد فارساً يعدو بحافريه، اشرأبت عروقه الغضب لشرف الأوطان وشرف العقيدة والدين.
كان "جدي" ملتزما في دين الله، محباً لربه كثير الجلوس في محراب الخلوات، يسابق لصلاة الجماعة واجتماع الفجر،لا يتوانى عن حب الخير والسباق لفعله وتقديمه للناس، كان أشد الناس كما عرفوه ببره بوالدته، حتى أنهم حدثوني، أنه ينام كل ليلة تحت أقدام والدته، مردداً "الجنة تحت أقدام الأمهات"، كل من حدثوا عنه وعاشروه، ذكروه أنه كان على تقوى من الله وهدى، ونحسبه كذلك انشاء الله.
كان جدي مزارعاً يحب الأرض والغرس فيها، كيف لا وهي أرض من فلسطين، متصدرة الساحل وجماله لمدينة "قلقيلية"، تلك الأرض الخصبة الزلال، ملكت ينابيع للحب كما ينابيع مياهها، يزرع أرضه بالبرتقال والليمون ومن أنواع عديدة لخضار وفواكه جنة الاطعام.
ارتبط قلبه بربه كما ارتبط بحب الأرض والأوطان، كان لا يترك سبيلاً لا يسعى فيه لغرس ما ينبت الخيرات، وفي اللحظة التي حان بها الجهاد، كان أول السباقين لخدمة الثورة والثوار، فكان ساعة يحمل بندقية الرصاص، وأخرى يعين الثوار بما يستطيع ليقوي عزيمتهم، حتى جعل من "بابور المياه" كما يسمونه أهل "قلقيلية"، وهو بناء مخصص لمنبع المياه من جوفها لسقي الأراضي والمزارع، ليكون مقراً لاجتماع بعض المجاهدين الثوار، فكان يتخفى للذهاب اليهم ويقوم على خدمتهم بما استطاعت يداه.
عاش الثوار المجاهدين ثورتهم على ساحل الأرض، بين مزارع الثمار متنقلين للأعداء بالمرصاد، يترصدون لهم بكل الطرقات، ويجاهدو بأي وسيلة يستطيعون اليها سبيلا، حتى أذاقوهم شدة بأسهم، وثار جنون المحتلين مما يلاقون من حمم الرصاص، ومن يقلع عمود سكنهم على أرض فلسطين، فانتصر الثوار كثيراً في مواقعهم، كما لحقتهم نكسات لقلة الامكانات، وشدة البطش من انتداب وقوة سلاحه الجبان.
وبعد كثرة كر وفر بين المجاهدين الثوار، والانتداب الغاشم على صدر الأوطان، كانت ليلة أخرى بانتظار هؤلاء الفرسان، من أجمعوا ليلهم في "بابور جدي"، وكانوا يخططون لكرتهم القادمة على جنود الإنتداب، "جدي" أصر على عروسه تلك الليلة، أن يذهب للأرض بحجة نسيانه أمر ما، وكانت "جدتي" بدأت أعراض حملها الاول "بأبي"، الذي سمي باسم والده "الشهيد ابراهيم" عند مولده .
ذهب "جدي" تلك الليلة القمراء المزينة برائحة البرتقال، ليقابل ثوار اجتمعوا عنده من أمصار الوطن العربي، يقال أن منهم من العراق والشام ولعلهم من بلد أخر، دخل عليهم في ابتسام وخشوع عيناه، محضراً الزاد معه لتلك الليلة، ومستمعاً لخطة الهجوم القادمة، وبعد وقت قليل مضى وهم يتسامرون بليلهم على أجندة الجهاد، كانت عين أخرى ترقبهم، تلك العين الخائنة المتعاملة من المحتل، تدنست ببراثن الدناءة وضياع الضمير، أخبرت جيش الإنتداب عن مكان الثوار لتمكر بهم بغته.
حاصر قوات الانتداب المكان بكل اتجاهاته، لتنكب مقتحمة ببرودها أجساد الثوار، الذين هبوا واقفين على رصاصاتهم مدافعين حتى نفسهم الأخير، وكان "جدي" من بينهم هؤلاء الستة من خيرة الثوار، الذين ارتقت أرواحهم في شموخ الدفاع عن كرامة الحق والدين والاوطان، ما تخاذلت أقدامهم ولا سقطت أيادهم للحظة، لترجع عن البذل في سبيل الله، فالرتقى الشهداء بأرواحهم عند بارئهم، ومات "جدي" شهيداً بكل فخر واعتزاز.
كان الإنتداب يمارس عدوانه بأشكاله المختلفة، على شعب يذوق من ويلاته مرارة الألم والمعاناة، لم يستطع أهل "جدي" أن يصرحوا أن ابنهم الشهيد" ابراهيم" أنه مع الثوار" وأذاع الناس أن مجموعة من الثوار استشهدوا بالأرض وهم يدافعون عن الكرامة، وكان من ممارسات المحتل الإنتدابي، أن يهدم منزل كل شهيد، كما يفعل الإحتلال الصهيوني اليوم، لذا خشي أهل "جدي" الإعلان أن ابنهم من بينهم، وهكذا أخذ الناس أجساد الشهداء جميعاً، لمقبرة المدينة القريبة من سوقها المركزي، وتم دفنهم "شهداء" عند ربهم يرزقون، وبعد شهور قليلة ولد أبي يتيماً ابن وحيد لشهيد، ورث عنه إسمه "ابراهيم".
وبقيت ثورات المعركة لا تنتهي، فكل جيل يأتي يرضع الثورة والجهاد، وما زالت لليوم تنزف الأرض كما بدأت، ونحن على وقع الأرض نمشي أملاً، أن القادم لأرض فلسطين عز وتحرير ينسال على ثوبها المطرز بالربيع، مهما طال في خصرها الألم.
آمال أبو خديجة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت