عودة إلى تجربة «التجمع الديمقراطي»

بقلم: معتصم حمادة

معتصم حمادة

أثبتت تجربة «التجمع الديمقراطي» حجم التباينات السياسية بين أطراف اليسار الفلسطيني وتنوع مرجعياته الفكرية

الحاجة الوطنية الفلسطينية إلى دور فاعل ومؤثر لليسار، في الحياة السياسية، وفي مسيرة النضال الوطني، حاجة موضوعية تؤكدها الوقائع الكثيرة في مسار القضية الوطنية، إن في إبداعاته الفكرية والسياسية وفي مقدمها إبداعه في بلورة البرنامج المرحلي (البرنامج الوطني) الذي أصبح، بعد نضالات مريرة، وتضحيات كبرى، برنامج الشعب الفلسطيني وقواه السياسية في كل مكان؛ أو في تطوير آليات النضال الجماهيري والمسلح، والإعلامي؛ أو في تمتين علاقات الشعب الفلسطيني وقواه السياسية مع شعوب العالم وأحزابها اليسارية والتقدمية والليبرالية؛ أو، أخيراً، وليس آخراً، في صون م.ت.ف، ووحدتها، ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، ورفضه (ونعني هنا الجبهة الديمقراطية تحديداً) الانخراط أو الانسياق في أية تحالفات أو محاور أو أطر تقدم نفسها بديلاً للمنظمة، أو تشكك في شرعيتها وشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني، حتى في أصعب الظروف، وفي قمة الخلاف مع القيادة الرسمية للمنظمة، ومع سياساتها اليمينية. كما يسجل لليسار أنه أبدع حين ربط بين الاعتراف بالموقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبين برنامجها المرحلي(البرنامج الوطني) معتبراً هذا الربط هو المعيار الحقيقي والفعلي للموقف من م.ت.ف، وهو المعيار الحقيقي والفعلي للموقع التمثيلي للمنظمة. فأي اعتراف بالمنظمة، وفي الوقت نفسه رفض برنامجها، ما هو إلا اعتراف لفظي، مفرغ من جوهره. وبقدر ما تعبر المنظمة في سياساتها عن تمسكها بالبرنامج المرحلي، بقدر ما يتعزز موقعها التمثيلي للشعب الفلسطيني. فجوهر تمثيل م.ت.ف، هو تمثيلها لوحدته، ولوحدة حقوقه الوطنية، وبالتالي، لا يمكن أن نفصم بين هذا الثلاثي، موقع المنظمة التمثيلي، تمسكها ببرنامجها الوطني(المرحلي)، صون وحدة الشعب من خلال صون حقوقه الوطنية، وفقاً لشعار: العودة وتقرير المصير والاستقلال.

*    *   *

هذه هي رؤية اليسار الفلسطيني(الجبهة الديمقراطية نموذجاً) وبالتالي فإن الوحدة ليست معطى دائماً، بل هي رهن بصون وحدة الحقوق. والموقع التمثيلي ليس معطى دائماً، بل هو رهن بالتمسك بالبرنامج المرحلي. من هنا دفاع الجبهة عن م.ت.ف، وعن برنامجها، وعن وحدة الشعب (وقواه السياسية) باعتبارها مهمة ثابتة لا تسقط عن جدول الأعمال، في كل الظروف، والمنعطفات، وأحد أهم عناصر القوة في خوض المعارك الوطنية. الانقسام الفلسطيني، منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عزز من أهمية دور اليسار وقدمه، في السياق العام، قوة إنقاذ للحالة الوطنية، فكانت صيغة القيادة الموحدة للجبهتين الديمقراطية والشعبية واحدة من الصيغ التي صاغها الطرفان في ظل الوضع الذي وصلت إليه الحالة الوطنية الفلسطينية. صيغة تحالفية نضالية، أسهمت في التخفيف من التدهور، والحد من الاقتتال وعززت من وضع اليسار ودوره، إلى أن وصلت تجربة القيادة الموحدة إلى نهايتها، في ظل تطورات تباينت فيها الرؤى بين الجبهتين. ما يؤكد أن اليسار الفلسطيني، في تنوعه الفصائلي، وإن كان يتوحد حول م.ت.ف، إلا أن مجموعة التباينات والخلافات في وجهات النظر، وقراءة اللحظة السياسية تلعب دوراً تارة في التقريب بين أطرافه، في أطر مؤقتة، وتارة تقود إلى التخلي عن هذه الأطر والعودة إلى الصيغ التعددية في إطارها الفصائلي.

ولعل آخر تجارب اليسار في هذا المضمار هو «التجمع الديمقراطي الفلسطيني» الذي حاول أن يقدم صيغة متقدمة عن سابقاتها، حين تشكل من قوى خمس، هي الجبهتان الديمقراطية والشعبية، وحركة المبادرة، وحزب الشعب، وفدا، وصف عريض من الشخصيات والتجمعات الديمقراطية المستقلة في المجتمع المدني الفلسطيني. صاغ لنفسه ورقة وبرنامج وآليات عمل، وقدم نفسه تياراً في مواجهة الاستقطاب الثنائي، يدعو لإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الداخلية، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية، والخروج من أوسلو والتحرر من قيوده، والتمسك بالبرنامج الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية.

غير أن محطات مفصلية وضعت التجمع سريعاً أمام امتحان، فشل، باعتراف أطرافه، في تجاوزه، كانت محطة تشكيل حكومة اشتيه، حيث برز الخلاف، بل برز الانقسام داخل التجمع واضحاً، طال حتى رؤية بعض أطرافه لطبيعة الانقسام بين فتح وحماس محملاً طرفاً دون غيره مسؤوليته (حماس)، معفياً الطرف الآخر من هذه المسؤولية (فتح)، ما شكل خروجاً على وثائق التجمع. وأدى، إلى تجميده. ويبدو أن كل المحاولات، لإنعاشه، وإعادة الحياة إلى أوصاله قد باءت بالفشل. وأصبح التجمع جزءاً من الماضي دون أن ينعيه أحد من أطرافه.

*      *      *

لم يشكل فشل «التجمع» كارثة، كما يحاول أن يوحي البعض في سياق المحاولات الدائمة لتطال من اليسار الفلسطيني ودوره. ولا يشكل فشل «التجمع» نهاية المطاف، ويفترض ألا يشكل آخر التجارب، بل أن تبني على تجارب الأطر اليسارية التي شهدتها الحالة الفلسطينية، تجربة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار، ما هو ممكن، وما هو غير ممكن.

• فاليسار الفلسطيني ليس واحداً. بل هو متعدد بتعدد فصائله.

• والمرجعية الفكرية لليسار ليست واحدة، بل هي مرجعيات، ولكل طرف من أطرافه مرجعيته. وهذا عنصر مهم من عناصر تعريف أطراف اليسار.

• وموقف أطراف اليسار من الانقسام القائم بين فتح وحماس ليس موحداً، وأن هناك من يعتبر نفسه في تحالف مع فتح، ويحمل حماس وحدها مسؤولية تعطيل عملية إنهاء الانقسام.

• وفي السياق نفسه، واضح أن رؤية أطراف اليسار للحظة السياسية الراهنة ليست موحدة، هناك أكثر من رؤية، عبرت عن نفسها في الموقف من المشاركة في حكومة السلطة، وفي الموقف من قرارات المجلس الوطني والمركزي ومتابعة تنفيذها، والخروج من اتفاقيات أوسلو.

• وأخيراً، وليس آخراً، ليست هناك رؤية موحدة لمفهوم بناء تيار ديمقراطي يضم، إلى جانب القوى اليسارية والديمقراطية، الصف العريض من التيار الديمقراطي الناشط عبر شخصيات مستقلة وتجمعات بنت لنفسها أطراً خاصة بها، بعد أن نأت بنفسها عن الانخراط في هذا الفصيل اليساري أو ذاك.

وبالتالي، نعتقد أن الأمر، نظراً لأهميته الاستراتيجية، ولكونه حاجة وطنية، يستحق العناء، وأن تبذل محاولة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار تجارب الماضي، بحيث تستند التجربة الجديدة إلى وثيقة سياسية، لا يكون الوصول إليها هو عبر تدوير الزوايا، بل في إبقاء الزوايا واضحة المعالم، حتى لا تقف شياطين الخلاف في التفاصيل التطبيقية، وفي شرح المفاهيم والمعايير، كما تستند التجربة إلى آليات عمل مرنة لكن تحمل في مرونتها مفهوم الالتزام السياسي الأخلاقي، وتكون التيارات الديمقراطية من شخصيات وأطر مستقلة أحد الأركان الرئيسية للإطار الجديد، الذي يفترض، على الدوام، أن يقدم نفسه باعتباره إطاراً «ديمقراطياً»، في السياسة، وفي الدور النضالي في قلب الحركة الجماهيرية

معتصم حمادة

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت