يقول الله تعالى في سورة الأحقاف (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ويقول بعض أهل التفسير أن هذه مرحلة يتناهى فيها عقل الإنسان ويكمل فهمه وحلمه.. وقد علمنا أن الوحي قد نزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين كان في الأربعين من سنيّ عمره المبارك، وهذا يشير إلى أن هذه المرحلة لها خصوصية وأهمية تؤكد النضج والوعي والاتزان.
وأعلم أن الأربعين مرحلة عمرية قد قيل عنها كثير من الأقوال وما زال يقال وسيقال بطبيعة الحال، سواء من الناحية الطبية الفسيولوجية أو النفسية(السيكولوجية) أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وعندنا في المثل الشعبي (بعد الأربعين قول: يا رب تعين) إشارة إلى أن الإنسان قد غادر مرحلة الفتوة والشباب وما يقترن بها من حيوية وطاقة فائضة، إلى مرحلة صار فيها عرضة للأمراض أكثر من ما مضى، وتراجعت مناعته، وفترت نهمته.
ولعل النساء عند الوصول إلى الأربعين سنة، شعورهن باختلاف الحال أكثر من الرجال، نظرا لتغيرات هرمونية محتملة أو واقعة أهل الطب أدرى بحيثياتها، وقد تنتاب بعض النسوة حالات كآبة أو عصبية ونزق، لا تفسير لها سوى ربطها بأنهن قد بلغن الأربعين! وبعضهم ينثر التفاؤل فيقول:إن الحياة تبدأ بعد الأربعين؛ ويزيد في التأكيد على التفاؤل بالاستشهاد بما أشرت إليه بأن التكليف والنبوة والرسالة والوحي لخاتم النبيين جاءت في هذه المرحلة، ومثله غالب إخوانه الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، ولكن لو نظرنا إلى الأمر من الزاوية نفسها، فهذا يعني بالضرورة أن أعباء الإنسان والتكاليف الملقاة على عاتقه تزيد هنا عما كانت عليه.
وأنا ضد اعتبار أن الحياة تبدأ من كذا أو كذا، كما يعطي بعضهم أرقاما أو مراحل حتى أنهم قالوا:تبدأ الحياة بعد الستين أو عند التقاعد.. ذلك أن الإنسان حين تنفخ فيه الروح وهو في بطن أمه يبدأ رحلة الحياة، وقد لا يكتمل خلقه بسبب الإجهاض، أو قد يخرج من بطن أمه إلى القبر مباشرة، وهو منذ أول يوم يدفعه فيه رحم أمه إلى هذا العالم، فإن حياته فيه قد بدأت وقد تنتهي في أية لحظة مهما طالت وتمادت تظل قصيرة...لذا وجب تذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات أي الموت، الذي هو حقيقة لم يختلف الناس على حتمية تذوق طعمها من كل نفس! ولكن هذا لا يعني التهوين من أهمية بلوغ المرء أربعين سنة، كيف والقرآن الكريم يشير إلى ذلك، وعلامات ومعالم شتى تجعل من الأربعين محطة مميزة وعلامة فارقة في حياة الإنسان، إذا قدر الله له أن يعيش إلى حينها وإلى ما بعدها.
هل الأربعون مرحلة فاصلة بين مرحلتين، لذا قد نشعر بالقلق والتوتر والحيرة؟ خاصة حين ننظر إلى شباب قد مضى إلى غير رجعة، وإلى قادم -بافتراض الاستمرار على قيد الحياة إلى حين- من الشيخوخة ومتاعبها وأحوالها، وفي العقل الباطن ما بعدها، أي الإحساس بأن الاقتراب من القبر قد ازداد أكثر من ذي قبل، ويتأمل المرء الأربعيني صورته في المرآة فيلحظ التغيرات على ملامح وجهه، خاصة عندما يقارنها بصور التقطت له قبل سنوات، فيرى الشيب غازيا أو ضيفا مقيما إجباريا على شعر رأسه ولحيته، أو تجاعيد تزحف سريعا أو ببطء إلى وجهه وجبهته، أو ضعفا وعدم قدرة على القيام بأشياء كانت تبدو سابقا روتينية سهلة أيام شباب قد رحل، ويندم كثيرا أو قليلا على قرارات اتخذها سابقا، ويشكر الله على قرارات أخرى يراها خيرا من نقيضها.
لماذا أكتب هذه الكلمات الآن؟ هل لأنني قد ولجت الأربعين للتوّ، أو على مقربة منها؟في الحقيقة إن العبد الفقر بعد بضعة أيام -إذا كتب الله لي الحياة- سيطفئ شمعته السادسة والأربعين، كما يقال عادة.. ست وأربعون حجة وفق التقويم الشمسي الميلادي، ومؤكد قد تجاوزتها وفق التقويم القمري.. أي يفترض أنني قد تجاوزت تلك المرحلة من الاضطراب أو القلق والتأمل وغيرها؛ فعند اقترابي وبواكير أيام وصولي إلى الأربعين، شعرت بأمور مختلفة وراودتني أسئلة متداخلة وغريبة، وقيل لي وقتها: بعد قليل من وصولك إلى (المحطة 40) ستتصالح مع الحياة والواقع وستمضي في الدرب ولن تظل مسكونا بهذه الهواجس وستقفز عن الوساوس.. وما قيل في أغلبه صحيح.
وقد شاء الله تعالى أن أقوم بتأدية فريضة الحج وأنا في الأربعين، وكنت وقتئذ قد كتبت على ورقة الدعاء الوارد في سورة الأحقاف (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي...الآية) وأكرر هذا الدعاء قدر الممكن.. أسأل الله حسن الخاتمة. ولكن لم أتوقف وأنشر مقالة كهذه وقتها واصفا فيها حالتي أو طارحا أسئلتي، ومضت سنة إثر أخرى، وصرت الآن أقرب إلى الخمسين، فما الذي دفعني الآن إلى الكتابة عن الأربعين، واستحضار خواطر ومشاعر حول هذا الأمر؟
السبب الرئيس هو الكتابة والحديث عن قضايا وأحداث وحروب وتغيرات مفصلية سابقة؛ فقد وجدت خلال العام الماضي 2019 الذي غادرنا منذ حوالي أسبوعين أنني صرت في تناولي للأحداث أو لعدد لا يستهان به منها، أشبه بشاهد على العصر؛ فكثير من الأحداث قد عشتها أو تفاعلت معها أو تأثرت مباشرة بها، أو كنت أتابعها وقت حدوثها، لدرجة أنني حين أقرأ وأراجع عنها/حولها للتأكد أو لزيادة المعلومات وتعزيزها والتنقيب عن شيء محدد، تجدني أحيانا أصحح باعتبار أنني شاهد (موثوق) عليها ولديّ تأكيدات على صحة ما أقول، ولست مجرد متلق للمعلومة.. هذا دفعني إلى حالة من شعور غامض بسرعة سير قطار العمر، مع أن هذا بدهي نظريا، وأنني الآن انتقلت من مرحلة البحث عن أحداث تاريخ معين إلى مرحلة استذكاره والتفاعل مع حالتي وقت حدوثه؛ بإدماج الشعور بملاحظات واعتبارات شخصية؛ كم كان عمري؟ في أي مرحلة دراسية كنت؟ وأي وسائل الإعلام -إذا كان الحدث بعيدا نسبيا- كنت أتابع؟ وكيف وماذا ومع من كان نقاشي وتعليقي على الحدث؟
ألهذه الدرجة كبرت؟ وهل غادرني الشعور والتصرف بنوع من براءة الأطفال؛ فالطفل فيّ وإن حاولت وأده قوي وعنيد، ويعزز حضوره ما يقوله كثير من الناس لي وهو أنني أحمل وجها طفوليا (BABY FACE) ولكن ما علاقة هذا بشعور يعززه حال المرء بغض النظر عن ملاحظة عابرة عن وجهه؟ حين تجلس مع أقرانك ومع من هو أكبر أو أصغر قليلا ثم تتحدث عن مرحلة معينة، وكيف كانت الأحوال فيها، وترى هذا يضيف لك معلومة، وذاك يأخذ منك تفصيلا، وآخر يصحح لك، وأنت تصحح لذاك، وإذا استعصى الجزم حول حدث أو اسم أو رقم تستعين بشاهد، وترى ابن العشرين وحتى الثلاثين ونيفا في محل متلق لأخبار لم يعرفها أو لم يسمع شيئا عنها منك ومنهم تدرك أنك كبرت.
وحين يناديك بعضهم: يا حج، وهو نداء في ثقافتنا الشعبية يشير ضمنا إلى تقدم سنيّ العمر، مع نوع من التوقير، أو يناديك من لا يعرفك بـ(عمو) تدرك أن القطار قد قطع محطات كثيرة؛ وحين أتذكر أنني –مع تأخري في الدراسة- قد تخرجت من الجامعة قبل أكثر من عشرين عاما، وهذا يعني أن من ولدوا وقتها الآن قطعوا شوطا في دراستهم الجامعية، وأن بعض الأتراب لهم أحفاد، فصار هناك من يناديهم (سيدو، أي جدي).. وحين ترى أنك صرت متسامحا في شؤون ما كنت لتسامح بها، ومتشددا في شؤون كنت فيها متراخيا، وعندك حساسية مفرطة لم تكن تحسّ بها سابقا تجاه بعض الأمور، وزاهدا في بعض أو كثير مما كنت إليه طامحا أو به طامعا، تحسّ بلا ريب أنك لست أنت من كان نفسيا وجسديا وغير ذلك.
طبعا، هذا ليس بثّا للتشاؤم، وأحمد الله تعالى تمام الحمد، وأسأله الستر فيما بقي من وقت في هذه الدنيا، وأن يهدينا الصراط المستقيم.. لكن هي خواطر تشبه كشف حقائق وتدارس واقع للتصالح أو التعامل الإيجابي معه، فالله تعالى لا يأخذ من المرء شيئا إلا عوضه بشيء يعينه على مواصلة المسير، وكل من يعش سيرى اختلافا كبيرا.. والله المستعان.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت