لم يدخر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو جهداً في محاولة جمع الأحزاب الدينية اليمينية في ائتلاف واحدٍ، يلملم شعثهم ويجمع صفهم ويركز أصواتهم، ويوحد كلمتهم ويقلل خلافاتهم ويضمن ولاءهم، في مواجهة زعيم حزب إسرائيل بيتنا أفيغودور ليبرمان، الذي ما زال يمتلك مفاتيح تشكيل الحكومة الإسرائيلية، بل واصل جهوده الدؤوبة ومساعيه المحمومة للتقريب بين زعمائها حتى الساعة الأخيرة قبيل انتهاء المهلة القانونية لتقديم اللوائح الانتخابية.
لم يفقد نتنياهو الأمل ولم يضعف ويتراجع، ولم يستسلم ويقر بعجزه أمام قادة الأحزاب المتشاكسين، الذين لا يدركون حجم المأزق الذي يعيشه الكيان، ولا عمق الأزمة جراء العجز عن تشكيل حكومةٍ مستقرةٍ، بل صمد أمام عنادهم وصبر في مواجهة اختلافاتهم، وحاورهم وفاوضهم، وأغراهم وساومهم، وحاول إقناعهم والتأثير عليهم، وضغط عليهم وهددهم، واستخدم كل ما لديه من أوراق قوةٍ للتقريب بينهم وجمعهم في ائتلافٍ سياسي واحدٍ، يكون قادراً على التصدي والتحدي، وكسب الأصوات وجلب المريدين والمؤيدين، وكان يحاورهم بنفسه حيناً، أو يوفد إليهم ممثلين عنه في أحيان أخرى، لكنه كان دائماً يراقب ويتابع، ويهدد ويتدخل، لعلمه أن هذه الجولة الانتخابية ستحدد مستقبله السياسي ومصيره الشخصي، ولهذا فقد كان في وساطته مع الأحزاب الدينية المفترض أنها مؤيدة له حازماً وحاسماً وقاطعاً.
حصر نتنياهو جهوده في أربعة أحزابٍ دينية هي تكتل اليمين الجديد بزعامة وزير الحرب نفتالي بينت، والبيت اليهودي بزعامة الحاخام رافي بيرتس، والاتحاد القومي بزعامة بتسلئيل سموتريش، وعوتسماه يهوديت بزعامة إيتمار بن غفير، وقد كان أمله الكبير أن يوحد صفهم ويجمع كلمتهم، ويجعل منهم ائتلافاً يمينيا وتكتلاً دينياً قوياً، ينال تأييد اليمينيين ويحصد أصواتهم ويحجبها عن خصومهم، ليكونوا إلى معه وإلى جانبه مع حزبي شاس ويهوديت هتوراة القويين المتماسكين والمضمون تمثيلهما والثابتة في الكنيست حصتهما.
إلا أن نفتالي بينت الذي أصبح وزيراً للحرب في الساعات الأخيرة، لا يكاد يصدق نفسه أنه أصبح وزيراً للأمن، ومسؤولاً عن الاستيطان، ومتحكماً في مصائر الفلسطينيين، وإن كان من قبل وزيراً للتربية ولتعليم، إلا أن منصبه الحالي جعله يتهيأ أنه قادر على فرض الشروط وصناعة التحالفات، فرفض عرض نتنياهو بضم حزب عوتمساه يهوديت إلى تكتل يمينا الذي يرأسه، بحجة أن زعيمه إتمار بن غفير يعلق في صدر بيته صورة لباروخ غولدشتاين، الذي ارتكب مجزرةً ضد المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل عام 1994، قتل فيها 29 مصلياً بريئاً، معتبراً إياه إرهابياً، وأنه وريث زعيم حزب كاخ مئير كهانا، وأنه وحزبه يضران بمصلحة إسرائيل، ويسيئان إلى سمعتها، وأن وجوده في تكتله سيحرمه الكثير من الأصوات.
ولما كان حزب البيت اليهودي بزعامة الحاخام رافي بيرتس يصر على تحالفه مع إيتمار بن غفير، ويعتبره شريكاً رئيساً معه، فقد رفض بينيت التحالف معه إلا أن يفض شراكته مع عوتسماه يهوديت، ويعلن استنكاره لتأييد بن غفير وحزبه لمرتكب مجزرة الخليل، ولجماعات تدفيع الثمن اليهودية، التي تعتدي على الفلسطينيين وجنود الجيش، وهو ما رفضه بيرتس بإصرارٍ شديدٍ، معتبراً أن تخليه عن بن غفير خيانة لا يقبل بها ولا يوافق عليها.
ورغم مواقف الرجلين المتباينة، فقد حملهما نتنياهو على اللقاء معاً في وجوده، إلا أن محاولته الأخيرة لجمعهما في إطار واحدٍ باءت بالفشل، بسب إصرار نفتالي بينيت على موقفه الرافض التحالف مع عوتسماه يهوديت، حيث دعا نتنياهو وحزب الليكود إلى ضم بن غفير إلى تكتلهم، بدلاً من الضغط عليه للقبول به.
عمل نتنياهو بكامل طاقمه وبكل طاقته، وسخر جل وقته حتى الساعات الأخيرة لليل الجمعة السبت الفائتين، وهو آخر موعد لتقديم اللوائح الانتخابية، ليوحد اليمين الإسرائيلي في مواجهة اليسار المتحد، وقد كان يتمنى ضم أحزاب أخرى إلى تكتل اليمين الجديد، كحزب "زهوت" بزعامة الحاخام موشيه فيجلين، إلا أنه تصادم مع بينيت المنتشي بمنصبه، والحالم بتجاوز نسبة الحسم التي فشل في تجاوزها في الانتخابات السابقة، في حين أن البيت اليهودي نجح في تجاوزها، وتمثل مع عوتسماه يهوديت في الكنيست.
يعتقد نتنياهو ومعه عددٌ كبير من أعضاء حزب الليكود وقادة الأحزاب اليمينية الدينية، أن نفتالي بينيت لا يختلف كثيراً عن أفيغودور ليبرمان، فإن كان الثاني قد أفشل محاولات تشكيل الحكومة، وجر "شعب إسرائيل" إلى انتخاباتٍ برلمانية للمرة الثالثة، فإن بينيت يضيع فرصة فوز اليمين وسيطرته على الكنيست، ويهيئ الفرصة لتشكيل حكومة غير صهيونية، تعمل ضد المصالح اليهودية، وتشرع تفكيك المستوطنات واقتلاع اليهود من "أرضهم"، وتوافق على منح العرب حقوقاً أخرى تهدد الهوية اليهودية للدولة.
جفت الأقلام ورفعت الصحف، وأغلقت أبواب الترشح وانتهت فرصة التكتل، ورست الخارطة الحزبية في الانتخابات الإسرائيلية القادمة على تسعة قوائم، أكبرها الليكود وأزرق أبيض، ومعهما القائمة العربية وشاس ويهوديت هتوراة وإسرائيل بيتنا، وتكتل اليسار وتكتلا أحزاب اليمين، بما لا يغير كثيراً في النتائج المتوقعة، ولا يبدل في المواقع المتخشبة، فكلا الحزبين الكبيرين سيبقيان عاجزين عن تشكيل الحكومة القادمة دون تحالفِ اليمين مع أفيغدور ليبرمان، أو تحالف المستحيل بين ليبرمان والقائمة العربية لصالح حزب أزرق أبيض، الأمر الذي يعني أن الاستعصاء السياسي باقي والأزمة مستمرة، وعدم الاستقرار سائد، والعجز عن تصريف الأعمال والتصدي للمهام وصرف الميزانيات يعطل الحياة الإسرائيلية العامة.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 20/1/2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت