في الوقت الذي كان فيه تداول أنباء التحضيرات الإسرائيلية للاحتفال بذكرى«المحرقة»، كان من الطبيعي القول إن كل مكان في فلسطين، من النهر إلى البحر،يصلح لأن يكون «معرضا حيا» وشاهد إثبات على وحشية الاحتلال الإسرائيلي منذ جرائم العصابات التي أنشأت دولته حتى يومنا هذا.
وإذا كانت الرواية الصهيونية تعرض لـ«مآسي» اليهود على يد النازية لنحو عقد من الزمن ، فإن وقائع الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، ولاتزال ترتكب، تقترب في مداها الزمني من المئة عام، منذ الانتداب البريطاني، ومن بعده الاحتلال الصهيوني.
وفيما ابتزت إسرائيل دولا أوروبية على خلفية مسؤولية«ماضيها»عن التسبب في مآسي اليهود، تبدو اليوم في معرض الشروع في مرحلة جديدة من الابتزاز، وهي تجدد أمام زوارها من المسؤولين، عرض«بضاعة» تخلط فيها صور الضحايا الذين سقطوا على يد النازية.. وعلى يد«الإرهاب الفلسطيني»!
سعت حكومة نتنياهو قبيل الاحتفال بذكرى«المحرقة» إلى حشد ماتستطيعه من رؤساء ودول وحكومات، وتظهير هذه المناسبة في إطار سياسي واضح الأهداف، وخاصة مايتعلق بالبكائية المزمنة على الضحايا. وفي هذه «الاحتفالية»، رسائل متعددة العناوين، وجوهرها أن كل المحاولات لفرض عزلة سياسية على إسرائيل قد فشلت، وأن مكانتها تتعزز على نحو مضطرد،على الرغم من من جميع المحاولات التي تبذلها حملات المقاطعة،التي ـ برأي دولة الاحتلال ـ حققت تقدما على الصعيدين الشعبي والبرلماني، لكنها قاصرة حتى الآن عن التأثير على القرار الرسمي في الدول التي تنشط فيها. والحضور الرسمي رفيع المستوى في إحياء هذه المناسبة، يعبر برأيها عن ذلك.
وفي سياق الاحتفال بهذه الذكرى، تجدد الدولة العبرية رواية استهداف اليهود، وتمد من حلقاتها في الزمان والمكان،من زاوية أن هذه الدولة معنية بالتذكير دائما بتلك المأساة التي لم تتوقف مع قيام دولة إسرائيل،«المهددة بالمخاطر والمحاطة بالأعداء»،والمقصود الآن هم الفلسطينيون ومن يؤيدهم في المنطقة.
ولقد أعادت حكومة نتنياهو تفعيل ملف «أملاك اليهود العرب والإيرانيين »،بهدف لايقتصر حدود المطالبة بتعويض مالي عن هذه الأملاك،ليصل إلى تثبيت رواية تقوم على تعرض هؤلاء اليهود إلى انتهاكات دفعتهم لـ«الهرب» فزعا، من هذه البلدان تاركين خلفهم مايملكونه. مع أن الجميع يعرف أن الدولة العبرية وضعت من أولى أهدافها،بعد سرقة أملاك الفلسطينيين، استقدام مئات الآلاف من اليهود وفق خطة منهجية، وعبر قوانين إحلالية أبرزها «قانون العودة» المخصص لليهود.
وإذا كانت الدولة العبرية تريد من إيقاد نار «المحرقة»، التي خمدت منذ أكثر من سبعين عاما أن تبقي المجتمع الدولي مشدودا إلى تلك المرحلة واستحقاقاتها، فإن الهدف من تفعيل ملف «اليهود العرب»،إيجاد قضية موازية لقضية اللاجئين الفلسطينيين،في إطار التعويض المالي«الدولي» للطرفين! بعيدا عن حق العودة للفلسطينيين.
وفي إطار تسويق روايتها الزائفة، تسعى إسرائيل أيضا إلى صياغة علاقاتها مع دول العالم خارج مدى وصلاحيات القرارات والقوانين الدولية، وقد برز ذلك في كثير من المحطات. وفي هذه المرة، تحاول تل أبيب توظيف أي حضور دولي رسمي في ذكرى«المحرقة»،كي ينضم إلى المسعى الأميركي ـ الإسرائيلي، لإفراغ إعلان المدعية العامة لـ«الجنائية الدولية» من مضمونه التنفيذي. وتجد حكومة نتنياهو الآن فرصة قوية في تعزيز جهودها في هذا الاتجاه،بفعل رفض المحكمة طلب المدعية العامة، فاتو بنسودا،إصدار حكم بشأن الولاية الإقليمية للأراضي الفلسطينية المحتلة، تمهيدًا لفتح تحقيق جنائي في الجرائم الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. بدعوى أن الطلب الذي قدمته المدعية العامة طويل جدًا وتجاوز عدد الصفحات المسموح بها (110 صفحات)، في ظل تقديرات قال عبرها المراقبون إن إعادة الطلب مرة أخرى والبت فيه قد يستغرق عدة أشهر.
وفي ظل هكذا وضع، من الطبيعي أن ينهض السؤال عن مصير قرارات الشرعية، أمام من يحضر احتفال «المحرقة»، وباقي مكونات المجتمع الدولي،وخاصة أن مئات القرارات قد صدرت أو أعيد التاكيد عليها بخصوص القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. ويبدو الأمر مستنكرا للغاية عندما يستمر تجاهل ضرورة وضع دولة الاحتلال أمام استحقاقات مارتكبته من جرائم بحق الشعب الفلسطيني وممتلكاته، منذ مقدمات النكبة حتى اليوم.
وفيما تتجه إسرائيل نحو انتخابات الكنيست في الثاني من شهر آذار القادم، سيسعى نتنياهو إلى توظيف مايجري لصالحه وصالح أطراف معسكره، دون أن يعني ذلك أن خصومه ومنافسيه خارج هذا الاهتمام.فقد قامت برامج أحزابهم جميعا بالأساس على الرواية الصهيونية ذاتها،واتحدوا معا في خطاب إنكار حقوق الشعب الفلسطيني. لذلك، ينخرط الجميع في في جوقة التباكي على ضحايا«المحرقة» في الوقت الذي يواصلون فيه ارتكاب جميع أشكال القتل والاعتقال والنهب والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني.
وعلى الرغم من حالة الاستقطاب الحاد الذي يعيشه المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل، تتقاطع الأحزاب الصهيونية في تبني سياسات التوسع الاستيطاني والضم ، وفصل القدس عن هويتها الوطنية واعتيارها عاصمة موحدة لدولة الاحتلال. ولفت الانتباه تبدل موقف غانتس رئيس تحالف«أزرق ـ أبيض» من احتمال نشر الشق السياسي من «صفقة ترامب». فبعدما اعتبر النشر قبيل الانتخابات يفيد نتنياهو، عاد ورحب بنشره. وهذا يعني أن عناوين صفقة ترامب موضع إجماع صهيوني، وأية تباينات بين الأحزاب ينحصر حول هوية المستفيد انتخابيا من ذلك، على اعتبار أن عناوين هذه الصفقة قد اتحدت مع خطة نتنياهو «السلام الاقتصادي».
في مواجهة هذا، تقف الحالة الفلسطينية بكافة مكوناتها،داخل منظمة التحرير وخارجها، أمام مهام لاتحتمل التاجيل،في ظل تغول السياسة العدوانية والتوسعية الإسرائيلية. وفي مقدمة هذه المهام القطع مع السياسات والحسابات الفئوية والجهوية التي أدت إلى وقوع الانقسام وعملت على استمراره، والبدء بحوار وطني شامل لمعالجة ملفات الأزمات الفلسطينية المتراكمة،ربطا بقرارات الإجماع الوطني التي قطعت شوطا مهما في إيجاد حلول صالحة لهذه الأزمات. وفي هذا المجال، يلعب تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي دورا حيويا في تعزيز قدرة الحالة الشعبية والسياسية الفلسطينية على مواجهة مخاطر المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، في الميدان والسياسة، عبر تدويل القضية والحقوق، وإنهاض المقاومة الشعبية ودعمها وحمايتها سياسيا، وصولا إلى تطورها إلى انتفاضة شاملة في وجه العدوان والاستيطان.
محمد السهلي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت