العرض التفاوضي الوحيد المطروح في الساحة هو صفقة ترامب – نتنياهو
■ منذ مطلع العام الجاري، ولا تفّوت سلطات الاحتلال فرصة، إلا ولتؤكد من خلالها إصرارها على تجريد السلطة الفلسطينية من الحد الأدنى من الصلاحيات المحدودة، كما منحها إياها اتفاق الحكم الإداري الذاتي، وأن تبقي لها مهام الخدمات اليومية للسكان، مع تقصد يومي على إلحاق الأذى بما تبقى لها من هيبة، ما انعكس على الوضع الداخلي، في مدن الضفة، وبلداتها وقراها، ومخيماتها، من لامبالاة، واستخفاف بالقوانين، وبالمؤسسات، وهو أمر تعكسه يومياً مقالات لم تكف الصحف الفلسطينية في رام الله عن نشرها بأقلام صحفيين مقربين إلى السلطة سياسياً، وفي عداد الفاعلين في مؤسساتها الإعلامية.
فالاستيطان، كما هو معلوم، تجاوز حدود «المعقول»، وبات رقم المستوطنين يدق أبواب المليون (ربما خلال سنة، أو خلال سنتين) ما يجعل هذا الرقم حالة ديمغرافية شديدة التعقيد، بانعكاساتها على المشروع الوطني. كما بدأ الاستيطان يتحول إلى ضم يومي، من خلال أساليب مختلفة، إما عبر فرض الأمر الواقع، أو من خلال فرض القوانين الإسرائيلية على «أملاك» المستوطنين، يتنافس في هذا أقطاب السياسة الإسرائيلية، كل طرف منهم يجهد نفسه ليؤكد موافقته على ضم أوسع المناطق لدولة الاحتلال، على طريق بناء دولة إسرائيل الكبرى. الأخطر أن الاستيطان تحول إلى عمل «روتيني» لا يثير حفيظة السلطة الفلسطينية، إلا بحدود ما هو مسموح لها، في ظل القيود التي تحد من تحركاتها، ولا يثير حفيظة الاتحاد الأوروبي، أو المجتمع الدولي إلا بحدود الاستنكار، أو التمني على حكومة نتنياهو الكف عنه. وفي كل الحالات، لا ينفع مثل هذا الرد لوقف الاستيطان وردعه.
يتساوق مع الاستيطان سياسة هدم المنازل، في القدس، والعيسوية، والخليل، ورام الله، وغيرها من المدن والمناطق السكنية في الضفة الفلسطينية، ما يعني مزيداً من التهجير، وإلغاء تطبيقات أوسلو وشروطه (إلا بما يلزم السلطة الفلسطينية) يترافق ذلك مع اجتياحات يومية واعتقالات لا تتوقف تطال عشرات الشبان كما يلاحظ أن اقتحام الأقصى بات هو الآخر ظاهرة «عادية»، تكاد أن تكرس التقاسم المكاني والزماني للمسجد، في خطوة تمهد لاحقاً للشروع في نسف أطراف منه تلبية لدعوة خرافية توراتية للبحث عن «الهيكل». أما في الحرم الإبراهيمي في الخليل، فإن سلطات الاحتلال باتت تفرض واقعاً جديداً، يحول المسجد، في واقع الأمر، إلى معبد يهودي، من خلال منع المصلين المسلمين من ولوجه. وهكذا تطال المصادرات الاستيطانية مقدسات الفلسطينيين والرموز الأكثر أهمية في حضارتهم الإسلامية.
أما السلطة، فكما أسلفنا، فلا دور لها إلا التزام اتفاق أوسلو، لا تملك رؤية ولا استراتيجية للخروج منه. حاولت مع أموال المقاصة ففشلت. حاولت مع استيراد اللحم الحي ففشلت أيضاً. وهناك إصرار إسرائيلي على إفشال الانتخابات التشريعية والرئاسية من خلال منع إجرائها في القدس.
حتى مالياً، تشكو السلطة من عجز يتجاوز المليار دولار من أصل موازنة تبلغ أكثر من أربعة مليارات (أي ما يعادل حوالي 30% من أصل الموازنة) في ظل خطوات أميركية وأوروبية، وحتى عربية، تقود إلى التجفيف التدريجي لموارد السلطة الفلسطينية، ما يعطل حتى دورها كسلطة خدمات، بعدما تحولت إلى «سلطة بلا سلطة». ها هي الآن مهددة بأن تكون سلطة بلا سلطة وفي الوقت نفسه وبلا قدرة على تقديم الخدمات، الأمر الذي يضع مجمل الحالة الفلسطينية أمام منعطف لم تعد تنفع معه سياسة المعالجات الجزئية اليومية.
■ ■ ■
في حل المسألة الوطنية، وقفت السلطة الفلسطينية عند حدود المفاوضات خياراً وحيداً، وعند حدود خيار «المقاومة الشعبية السلمية» أداة للضغط. في وقت تدرك فيه السلطة أن نتنياهو رفض كل الدعوات لاستئناف المفاوضات، وأن استراتيجية دولة الاحتلال تقوم على بناء الوقائع الميدانية لفرضها أمراً واقعاً، تبنى هذه الاستراتيجية الرئيس الأميركي ترامب في صفقته أساساً للحل. كما تدرك أن العرض التفاوضي الوحيد المطروح في الساحة الدولية هي «صفقة القرن» (صفقة ترامب – نتنياهو) التي يتردد القول إنه سيتم الإعلان عنها قبل الانتخابات الإسرائيلية في 5/3/2010، والتي تؤكد السلطة رفضها لها.
كما تدرك السلطة أن القانون الدولي يمنح الشعب الفلسطيني حقوقاً واسعة للدفاع عن سيادته بكل الأساليب الممكنة، باعتبار ذلك مقاومة مشروعة، أثبتت الوقائع أن المقاومة الشاملة هي التي بإمكانها أن تمارس الضغط على سلطات الاحتلال، لتستجيب لما يمكن تحقيقه، في ظل موازين القوى الحالية من مكاسب للشعب الفلسطيني.
تتمسك السلطة بمبدأ المفاوضات، في ظل غياب المفاوضات، وفي ظل خيار تفاوض وحيد، هو صفقة ترامب - نتنياهو، ما يعني أن استراتيجية التفاوض، خياراً وحيداً، فات أوانها، وبات على الحالة الوطنية الفلسطينية أن تتجاوزها نحو استراتيجية بديلة. نسوق هذا الكلام مستندين إلى ما توصل إليه الإجماع الوطني في 5/3/2015، حين قرر المجلس المركزي الشروع في الخروج من التزامات أوسلو وبروتوكول باريس. وقد طور المجلس المركزي في 15/1/2018 هذه القرارات، في ضوء الخطوة الاستراتيجية لإدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، معلناً بذلك الشروع في الكشف التدريجي عن عناصر «صفقة القرن»، ليس باعتبارها عرضاً تفاوضياً بل خطوة عملية تفرض نفسها ميدانياً بقوة الضغط الأميركي، وقوة إسناده للاحتلال الإسرائيلي، لفرض الوقائع الاستيطانية حلاً دائماً. كما توج المجلس الوطني في الدورة 23 استراتيجية المواجهة الشاملة في الميدان عبر المقاومة الشعبية الشاملة، وفي المحافل الدولية. ومنذ ذلك الوقت والسلطة تتردد في تطبيق هذه القرارات، وتذهب أحياناً إلى أقلها كلفة في مواجهة الاحتلال (في حسابات لا تتجاوز سقف أوسلو والتزاماته)، ما يؤدي، في الواقع، إلى إفراغ بعض عناصر المواجهة من مضمونها، ويحولها إلى مجرد مواجهة لا تتجاوز الفضاء الإعلامي، وحدود الشكوى المفتوحة أمام المجتمع الدولي، غير المقرونة بعمل ما، يؤكد جدية هذه الشكوى وإلى أي مدى تشكل جزءاً من استراتيجية متكاملة.
■ ■ ■
لا يمكن إنكار أهمية اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية. لكن استراتيجية المجلس الوطني في دورته الأخيرة لم تتلخص بهذه الخطوة، بل اعتبرتها واحدة من الخطوات المكملة بعضها لبعض. ما يعني ألا تتحول المحكمة إلى حائط مبكى، والسلاح الوحيد في المجابهة. وليس من حكمة سياسية في تعطيل باقي أسلحة المجابهة، كذلك ليس من الحكمة السياسية أن تستعمل استراتيجية المجابهة مجرد مناورة سياسية دون تحويلها إلى سياسة يومية وإلا استهلكت وفقدت معناها، وفقد الرأي العام ثقته بها، وبالمؤسسة الوطنية، وبجدارة الحالة السياسية الراهنة على قيادة سفينة الخلاص الوطني.
• الخروج من أوسلو، وبروتوكول باريس.
• المواجهة الميدانية.
• المواجهة في المحافل الدولية.
• إعادة بناء المؤسسات الوطنية طبقاً لاستراتيجية المواجهة.
• إنهاء الانقسام، وإغلاق بوابات العبث الإسرائيلي (وغيره) في الملعب الفلسطيني.
تلك هي استراتيجية أقرها المجلس الوطني، وهي السبيل نحو صناعة واقع جديد، لا تكون فيه السلطة بلا سلطة، ولا يكون فيه مفاوضون، بلا مفاوضات ■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت