ماذا بعد الإجماع الفلسطيني؟

بقلم: محمد السهلي

على الرغم من وضوح مقاصدها، أثارت «رؤية ترامب ـ نتنياهو» الكثير من الأسئلة حول مسار التطورات القادمة على جبهة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والوضع الذي سيرسو عليه المشهد العربي والإقليمي بعد الإعلان عن الشق السياسي من هذه «الرؤية»، وعزم نتنياهو وحكومته المباشرة في خطوات «الضم» على طريق تجسيد دولة «إسرائيل الكبرى»، وإلحاق الهزيمة الكاملة بالمشروع الوطني الفلسطيني.
وفي محاولة للإجابة على هذه التساؤلات، توقع محللون سيناريوهات متعددة تبدأ من المراوحة في المكان على صعيد الرد العملي الفلسطيني في مواجهة ماطرحه الحليفان الأميركي والإسرائيلي، وتنتهي بحدوث انعطافه نوعية في العمل الوطني الفلسطيني تقطع مع المرحلة السابقة بكل ماشهدته من كوارث وأزمات.
وجميع السيناريوهات التي طرحت تأسست على إمكانية توافر الإرادة السياسية الفلسطينية الموحدة ،من عدمها، في الانتقال من رفض ماسمي بـ«الصفقة» إلى مواجهتها، وإفشال أهدافها.
بني إجماع مكونات الحالة الفلسطينية في رفض «الصفقة» على «فداحة» ماتضمنته من مخاطر على قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه، أكثر مما بني على رؤية مشتركة لهذه المخاطر وسبل مواجهتها. ولهذا السبب طرح بإلحاح سؤال ماذا بعد هذا الإجماع؟
ولقد رأت بعض الآراء أن ماتعانيه الحالة الفلسطينية من عقد وأزمات متعددة المناحي، تتطلب جهدا كبيرا ومباشرا من أجل حلها. وقالت هذه الآراء إن صعوبة التوصل إلى استراتيجية وطنية موحدة لمواجهة «رؤية ترامب ـ نتنياهو»،تكمن في الأساس باختلاف الهدف من رفض هذه الرؤية والمسار العملي الموحد الذي يجب العمل به ما بعد رفضها. فهناك من يرى أنه يوجد من العصي في دواليب «عجلة التصفية» الأميركية ـ الإسرائيلية ما يكفي لفرملتها أو إبطاء حركتها على الأقل. ويرى هؤلاء في تمسك أطراف مهمة في المجتمع الدولي بـ«حل الدولتين» أساسا قويا يمكن القيادة الرسمية الفلسطينية من إعادة هذا المبدأ إلى سلم الاهتمام الدولي نقيضا لماتسعى له تل أبيب وواشنطن. وأنه في ظل هكذا خريطة مواقف إقليمية ودولية بات من الممكن البحث عن بلورة «مبادرة» فلسطينية تطلب توافر مرجعية دولية متعددة الأطراف ترعى الإشراف على تسوية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بعيدا عن الدور الأميركي بصيغتيه السابقة والحالية.
مشكلة هذا الاتجاه أنه يبدأ وينتهي بالحل التفاوضي مع الاحتلال، وكأن «الرؤية» التي طرحها ترامب ونتنياهو مجرد «وجهة نظر» في الحل، وليست خطوات بدأ تنفيذها على الأرض منذ سنوات، وأنها نتجت عن اتحاد الرؤيتين الأميركية والإسرائيلية تجاه قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، وأن إدارة ترامب باتت رأس حربة في التطبيق بكل ماتتمتع به من قوة سياسية وعسكرية واقتصادية.
كما أن هذا الاتجاه لا يركز على ضرورة الاستفادة من هذه المواقف لجهة الطلب من أصحابها، وخاصة الاتحاد الأوروبي، تطوير مواقفها بالاعتراف بدولة فلسطين بناءً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 19/67، الذي اعترف بفلسطين دولة تحت الاحتلال وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67، وحل قضية اللاجئين بموجب القرار 194 الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948.وهذا يعني وضع المجتمع الدولي أمام دوره المفترض في إعادة الاعتبار لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، في مواجهة السعي الأميركي ـ الإسرائيلي إلى تنحية هذا القرارات عن الحل المفترض للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
وتدرك الأطراف التي لم تقبل بـ«رؤية ترامب ـ نتنياهو» أن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة قابل للانفجار بقوة مع استمرار خطوات «الضم» التي فتحت عليها هذه «الرؤية»، حتى أن محللين إسرائيليين ومستويات أمنية في إسرائيل لديهم التقدير ذاته. لذلك، من مشاكل التمسك بالحل التفاوضي في هذه المرحلة بالذات أنه يضعف هذه التقديرات ويقلل من توجس الأطراف الرافضة لـ«الصفقة» من تداعياتها على الأرض. وهذا التوجس هو الأساس الذي يدفع هذه الأطراف إلى التدخل.
والمشكلة المتممة أن أصحاب هذا الاتجاه يخرجون من حساباتهم العملية ضرورة مقاومة «الصفقة» على الأرض عبر تفعيل المقاومة الشعبية، في السياق الذي يفترض قبل كل شي القطع مع الرهان على الحل التفاوضي بعد كل ماجرى، لصالح اعتماد استراتيجية وطنية وفق بوصلة قرارات المجلسين الوطني والمركزي.
وعلى الرغم من أهمية التحرك السياسي والديبلوماسي على الصعيدين الإقليمي والدولي وفي مؤسسات الأمم المتحدة، يبقى الرفض الفلسطيني العملي والميداني هو الأساس المفترض في الرد الفلسطيني على مخاطر«الصفقة». وهو مدخل حاسم لتجاوز الكثير من الأزمات الفلسطينية المستعصية وفي مقدمتها الانقسام. ومن البديهي القول إن ماطرحه ترامب ونتنياهو يضع الحالة الفلسطينية بكافة مكوناتها أمام امتحان صعب لايمكن الفوز فيه دون تمثل دروس المرحلة الماضية.
وفي هذا المجال، الدرس الأبرز الذي ينبغي تمثله هو مغادرة السياسات والحسابات الفئوية والجهوية التي أدت إلى الانقسام، وأشعلت الصراع الداخلي الفلسطيني على وهم «السلطة» تحت الاحتلال، لتقطف حكومة تل أبيب ثمار ذلك في الاستيطان والتهويد والتطهير العرقي إلى جانب القتل والاعتقال والحصار. والدرس الأول أيضا مغادرة الرهان على الحل التفاوضي مع الاحتلال، الذي لا يرى في التفاوض مع الجانب الفلسطيني سوى وظيفة واحدة هي ترسيم تصفية الحقوق الفلسطينية. وقد عبر عن ذلك نتنياهو بشكل واضح، بعدما قال إن إسرائيل حصلت على كل ماتريده عبر «الصفقة»، وأن جهود حكومته ستنصب على تنفيذها بمعزل عن الجانب الفلسطيني.
وهاهو يستعد الآن من أجل تحويل الانتخابات الإسرائيلية القريبة القادمة إلى استفتاء على تصفية قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه وهو الهدف الذي يقع في قلب مشروعه الاستعماري التوسعي، وهو أيضا أساس برنامجه الانتخابي في سياق طموحه العودة إلى مقعد رئاسة الوزراء كي يستكمل«مهمته»، دون أن يعني ذلك أن منافسيه من خارج معسكره بعيدون عن هذه «الرؤية».
مايجعل من «الصفقة» هدفا ملحا على دريئة العمل الفلسطيني أنها وضعت عموم الشعب الفلسطيني خارج «المستقبل»،بعدما غادرت السياسة الأميركية تجاه قضيتنا لعبة المقايضة مابين الحقوق الفلسطينية مثل «الدولة مقابل حق العودة»، لتضع جميع الحقوق في مهب التصفية، ونقلت استهدافها المباشر حتى إلى أراضي الـ48 عندما اقترحت نقل قرى وبلدات «المثلث» إلى «الكيانية الفلسطينية» الموعودة.


محمد السهلي

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت