■ في كل مرة يتقدم المشروع الأميركي – الإسرائيلي، في التطاول على الحقوق الوطنية الفلسطينية، نصل إلى الاستخلاص نفسه الذي يؤكد بوضوح غياب الاستراتيجية الوطنية الجامعة والموحدة للرد على هذه الخطوات، ولمواجهة المشروع المعادي مواجهة شاملة برؤية استراتيجية، وخطط مدروسة، وآليات مختبرة، بحيث تخفف من الخلل الفادح في توازن القوى، وتلجم الهجمة الأميركية – الإسرائيلية، وتستقطب المزيد من التأكيد العربي والدولي، وتعزز تماسك الصف الوطني، بكل تياراته وقواه وفعالياته وإمكانياته، التي ما زال جزء كبير منها معطلاً.
حدث هذا منذ نيسان 2016، حين أعلن وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق جون كيري فشل تحركاته السياسية المكوكية، بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لاستئناف العملية التفاوضية، بعد أن أصر نتنياهو على رفض أية شروط أو متطلبات، تقدم بها الجانب الفلسطيني، ووافق عليها الجانب الأميركي، خاصة وقف الاستيطان وتجميد مشاريعه، حتى أن نتنياهو رفض التعهد بوقف الاستيطان في المناطق التي وعد الأميركيين أن ينسحب منها في أية تسوية دائمة. ما يؤشر إلى تأكيد نتنياهو العملي، ما صرح به لاحقاً، حين ادعى أن الأرض كلها هي «أرضنا» وأن البلد «هو بلدنا»، وأنه لا وجود لشيء اسمه فلسطين، وأن الاسم الوحيد لهذه المنطقة هي يهودا والسامرة، وقد جاء ترامب في «رؤيته» للسلام المزعوم، ليطلق على المنطقة كلها، الممتدة من نهر الأردن، حتى شواطئ البحر المتوسط، اسماً واحداً هو «إسرائيل».
واصل نتنياهو الاستيطان، رغم صدور القرار 2334 في مجلس الأمن بالإجماع، نهاية العام 2016 في إدانة الاستيطان.
واصل نتنياهو استراتيجيته لبناء وقائع ميدانية تفرض نفسها كأمر مسلم به، بينما بقيت السلطة الفلسطينية عند مواقفها وشعاراتها التي تتمحور كلها حول الالتزام بالاتفاقيات الموقعة، والتمسك بالمفاوضات تحت سقف هذه الاتفاقيات، خياراً وحيداً، في الوقت الذي تؤكد فيه كل الوقائع أن حكومة الاحتلال لم تعد تلتزم الاتفاقيات الموقعة إلا بما يلزم الجانب الفلسطيني وحده، وأنها لم تعد تنظر إلى المفاوضات سبيلاً للحل، وأن «الحل» هو في فرض وقائع يرغم الجانب الفلسطيني على التسليم بها، بحيث يتحول الحكم الإداري الذاتي هو نفسه، القائم حالياً، إلى الحل الدائم.
(2)
حين أعلن الرئيس الجديد للإدارة الأميركية دونالد ترامب، مشروعه للحل، وأطلق عليه اسم «صفقة القرن» . باتت الاستراتيجية الرسمية الفلسطينية هي الرهان على هذه «الصفقة»، باعتبارها المدخل لاستئناف المفاوضات للوصول إلى ما بات يسمى بـ«حل الدولتين»، رغم ما يحيط بهذا الحل من غموض، ليطال العديد من بنوده، كالحدود، والمستوطنات، والقدس، واللاجئين، وغير ذلك مما سمي بقضايا الحل الدائم. وظل الرهان على «صفقة القرن» هو الاستراتيجية الفلسطينية الرسمية المرفوعة، إلى أن تمّ الكشف عن وجهها البشع في 6/12/2017 بالاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، والطلب إلى الدول «الصديقة» للولايات المتحدة لتحذو حذوها، في خلق واقع جديد، لمحو القدس من الخارطة الفلسطينية والعربية والمسلمة، ومن خارطة المذاهب المسيحية العربية.
هنا افترق الموقف وباتت الحالة الفلسطينية أمام مفارقة سياسية خطيرة ومضرة، ولا تبشر بأن الاستراتيجية الفلسطينية الرسمية جادة في الإقبال على التغيير أو الشروع فيه، أخذاً بالاعتبار، تلك النقلة التاريخية (تاريخية بامتياز في منحاها السلبي) التي أحدثها اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، (15/1/2018) خطا في قرارات جريئة سلسلة خطوات من شأن، الاخذ بها، أن تؤسس لمرحلة جديدة، في إدارة الشأن السياسي الفلسطيني، وأن تنقل الصراع مع الاحتلال، ومع المشروع الأميركي ــــــ الإسرائيلي، إلى موقع جديد، تتوفر فيه للجانب الفلسطيني. قدرة أكبر على التحرك والمقاومة والاشتباك في الميدان، فضلاً عن المحافل الدولية، بالاستقواء بالقانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، التي مازالت، في رأي الصف العريض من عواصم العالم، أساس أي حل للمسألة الفلسطينية، وقد أعاد المجلس الوطني (3/4/2018) التأكيد على هذه القرارات، وأدخل عليها تطويرات مهمة، من شأنها أن تعزز عملية الانتقال وأن تحصن مواقعها في المعارك القادمة.
السلطة الفلسطينية، من جانبها، وكما حولت قرارات المجلس المركزي الأسبق (في 5/3/2015) إلى مادة تفاوضية في رهانات خاسرة، وعطلت تنفيذها، أدارت لعبة مماثلة مع قرارات المجلس المركزي والوطني، وتجاهلت أنها قرارات إجماع وطني، وأنها ملزمة للجميع، حتى أنها، تجاهلت مواقف ونداءات أعضاء في اللجنة المركزية لحركة فتح نفسها، بعدها صار الإحراج أمام الحالة الوطنية الفلسطينية أمراً شديد الوطأة.
انتقلت السلطة في أدائها اليومي إلى مواقف، إن كانت تعبر عن شيء، فإنها تعبر عن حالة إنكار تعيشها السلطة وآليات اتخاذها القرار. فقد استمرت في رفضها اللفظي والكلامي المجاني للخطوات التطبيقية لـ «صفقة ترامب ـــــ نتنياهو» دون أن تترجم هذا الرفض بخطوات عملية تكسبه مصداقية في أعين الرأي العام، بل ظلت على تمسكها بالاتفاقيات الموقعة والتزاماتها بها، رغم أنها شكلت أكثر من ثماني لجان بذريعة دراسة خطط وآليات تطبيق قرارات المجلسين (الوطني والمركزي، التي أعادت التأكيد عليها في اجتماع 25/7/2019، رداً على مجزرة تهديم وادي الحمص، في الضفة الفلسطينية على يد سلطات الاحتلال.
(3)
الآن، وصلت رحلة «صفقة ترامب ـــــ نتنياهو» إلى لحظة الحقيقية، ليتضح أنها ليست «صفقة»، وليست معروضة على الفلسطينيين ليقبلوا بها أو يرفضوها، بل هي «رؤية» اتفق من خلالها ترامب ونتنياهو، وكذلك بيني غانتس (زعيم المعارضة الإسرائيلية، وزعم تحالف أزرق ــ أبيض) على أن تكون لهم مقعد إلى طاولة المفاوضات، لاستكمال مهزلة مفاوضات أوسلو، المستمرة منذ ما قبل 13/9/1993. إذا ما رفضوها، فإن حكومة الاحتلال مخولة، بضوء أخضر أميركي، بتطبيق «الرؤية»، وواضح أن تطبيقها، إن كان عبر مفاوضات أو بدونها، فإنها سوف تطبق وفق «رؤية» اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، والذي نطق نتنياهو باسمه، مدعياً أن «هذه أرضنا»، و«هذا بلدنا»، والذي نطق سفير الولايات المتحدة الأميركية دافيد فريدمان نيابة عن الحركة الصهيونية مدعياً أن الضفة الفلسطينية هي «أرض إسرائيل، وأرض للشعب اليهودي حررها جيش إسرائيل (المسمى جيش الدفاع) في حرب حزيران (يونيو) 67، واستردها من الحكم الأردني». بالتالي أية بقعة أرض، ستقام عليها «الدولة» الفلسطينية، التي وعدت بها «رؤية» ترامب للفلسطينيين فهي بمثابة تنازل من إسرائيل عن جزء من أرضها، ما يبرر لها أن تبقي هذه «الدولة»، المسماة فلسطينية، تحت كامل سيطرتها، وفي قبضتها، تحصي عليها أنفاسها، وتنظر إليها على الدوام باعتبارها خطراً على أمن إسرائيل، ورقماً زائداً في المنطقة.
الآن ... ما سيفعل الفلسطينيون ؟
دعا الفلسطينيون إلى اجتماع «قيادي» بالتزامن مع عقد ترامب مؤتمره الصحفي للإعلان عن «رؤيته» للحل في المنطقة، فطغى على الاهتمام مؤتمر ترامب على حساب الاجتماع القيادي الفلسطيني، الذي جاء تكراراً لصيغ سابقة، عقدت أثناءها اجتماعات مماثلة، لم ينتج عنها سوى قرارات، دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ.
الاجتماع القيادي الفلسطيني أدان «رؤية» ترامب، وأعلن رفضه لها. وهذا موقف منتظر، ويأتي في سياق المواقف السابقة لكل ما ينتج عن رؤية ترامب.
شاركها في هذا الموقف العديد من العواصم العربية والدولية، بمن فيها العواصم التي وقفت موقفاً خجولاً واكتفت بالتحفظ، مقابل تمسكها بحل الدولتين. ولعل الخارجية الفرنسية هي التي خطت خطوة مميزة إلى الأمام حين تحدثت عن «دولتين حقيقيتين» في إشارة إلى «الدولة» الفلسطينية، ـــ المهزلة الواردة في رؤية ترامب، والتي لا تتجاوز في شكلها وصلاحياتها الإدارة الذاتية على السكان، دون الأرض.
كذلك أعلن الاجتماع القيادي العمل على «تعديل وظائف السلطة الفلسطينية»، وهو تعبير آخر عن فكرة وقرار الانتقال من السلطة إلى الدولة، كما ورد في قرارات المجلس الوطني في 30/4/2018.
هنا يفهم من «تعديل الوظائف» الدخول في مرحلة سياسية جديدة، تتطلب سلطة فلسطينية، تختلف في وظائفها، وأدائها، وفي السياق التزاماتها، عن السلطة الحالية، وذلك ربطاً بالقرار القاضي بالشروع في تطبيق قرارات المجلسين المركزي والوطني، السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والقانونية، وغيرها. وبالتالي إذا ما أخذنا هذه الأمور كلها على محمل الجد (ولا خيار سوى أن تؤخذ على محمل الجد، فالظرف السياسي واللحظة الصادمة لا تتحمل خطوة وموقفاً أدنى)، فمعنى ذلك أن الحالة الفلسطينية سوف تنتقل إلى مربع سياسي جديد، تحتاج معه إلى «إعادة التموضع السياسي والجغرافي» في الوقت نفسه.
«التموضع السياسي» بمعناه الواضح والشامل، بدءاً من سحب الاعتراف بإسرائيل، واعتبارها دولة احتلال وعدوان واستعمار استيطاني عنصري فاشي، يتوجب مقاومتها للتحرر من قيودها، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، على حدود حزيران (يونيو) 67.
... ومعناه أيضاً وقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال وقفاً تاماً، بكل أشكاله الأمنية، العسكرية، المخابراتية، وحتى الإدارية. ما يتوجب وقف العلاقة مع الإدارة المدنية، وتجريدها من صلاحياتها، بما في ذلك استرداد إدارة سجل السكان وسجل الأراضي ...
... وكذلك الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي، بما يؤدي في النتيجة إلى طي صفحة أوسلو، والتبرؤ منه، والتحرر من التزاماته، وهذا من شأنه أن ينقل مجمل الحالة الفلسطينية الرسمية، (أي المؤسسات) من حالة التعايش مع الاحتلال إلى حالة الصدام اليومي، بأشكاله المختلفة.
نسوق هذا الكلام، في ظل إدراك كامل أن السلطة الفلسطينية بمؤسساتها الأمنية، والإدارية، والاقتصادية وآليات عملها، تموضعت في إطار تطبيقات اتفاق أوسلو وشروطه، تحكمها آليات من التعاون مع الاحتلال، في الأمن، والإدارة، والمال، والاستيراد، والتصدير، والتنقل، وغيرها. وبالتالي إعادة التموضع خارج هذا الإطار، سيجابه بإجراءات مضادة من قبل الاحتلال وسلطاته. ولعل تجربة أموال المقاصة ومصادرتها من قبل سلطات الاحتلال، في ظل عجز تام من الجانب الفلسطيني، نموذج فاقع، ولعل تجربة ملف اللحم الحي (استيراد العجول) نموذج آخر. تؤكد التجارب أن اليد العليا في هذا الجانب هي اليد الإسرائيلية. زادتها قوة حالة التموضع السياسي والإداري والاقتصادي والمالي، والجغرافي، للسلطة الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية، بحيث باتت كلها في قبضة الاحتلال. وبدون أية مكابرة، لا بد من الاعتراف أن هذا الواقع، من شأنه أن يضعف القدرة على تنفيذ قرارات قطع العلاقة مع دولة الاحتلال، كما من شأنه أن يدفع بعض الأطراف إلى التعلل بهذا الواقع، لتبرر تمسكها بالاتفاقات، بما تدرّ عليها من مصالح.
هذا الواقع يضع الحالة الفلسطينية أمام خيارين: إما التسليم بالأمر الواقع الذي فرضه عليها اتفاق أوسلو وقيوده، وإما رفض هذا الواقع، وبناء واقع جديد، يلبي ضرورات مواصلة مسيرة الكفاح حتى الخلاص من الاحتلال والاستيطان.
فما هو هذا الواقع الجديد؟ ■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت